حملة أبعاد .. إحياء لذاكرة الخوف لدى النساء

أطلقت جمعية أبعاد، في اليوم الأول من حملة الـ16 يوم، حملة “لا عرض ولا عار”، حول الجرائم المتعلّقة بالاعتداءات الجنسيّة على النساء والفتيات.

وحول غياب قوانين تردع المعتدين، وتحمي النساء والفتيات، وتحقق لهن العدالة.

لم تستغرق رحلتي الإلكترونية على منصّة أبعاد على تويتر إلا ثوانٍ، خرجت منها وأنا ألهث، كأنني وقعت على فيلم رعب عن طريق الخطأ.

فجهازي العصبي كناجية من عنفٍ جسدي وجنسي، لم يستطع الدفاع عن نفسه إلا عبر الهرب، كردّة فعلٍ لا إراديّة من رؤية بقع الدم المنتشرة على بوستراتٍ، تملأ الشاشة أمامي.

الإعلام النسوي مسؤولية

لا أعرف كيف خوّلت لهن نسويتهن ذلك!

على الرغم من أنني لا أشكّك في نسوية أحد، في مجتمعٍ أبوي يعيد في كل حين، نصب الخلاف بيننا كنساء، وتفرقتنا على مختلف الأصعدة.

لكن وفقاً للمعايير النسويّة، يُفترض الالتزام ببعض الأخلاقيات أثناء الإشارة إلى حدوث عنف.

إذ يمكن مثلاً إعطاء تحذيرات تنبّه المشاهدة أن المحتوى سيكون حسّاساً.

فحملة عن الاعتداءات الجنسية ستكون صادمة ومثيرة للجدل في حد ذاتها.

وستكون في غنى عن التهويل الإعلامي، الذي لا يُنتج عبر الترويع في مشهديتها أي شيء.

إلا أن الصاعقة التي ضربتني، جعلتني أتساءل:

ما هي المشاعر التي انتابتهن للحظات، قبيل إطلاق البوسترات، حتى لحظة رؤيتهن؟ هل خفن؟

ما هي المشاعر التي ستنتاب أخريات؟ أو النساء اللواتي أدلين بشهاداتهن؟

وهن يرينها في هذه الصورة المرعبة البارزة أمامهن، كهاويةٍ تبتلع داخلها كل ما شَهِدنه من جرائم في حقّهن، وصدماتٍ لم تشفى بعد؟

تأثيرات حملة أبعاد النفسية

سألنا أخصائية نفسيّة عن تأثير هذه الحملة على النساء والفتيات، المعرّضات للعنف الجسدي والجنسي.

ورأت الأخصائية، التي فضّلت عدم ذكر اسمها، أن “الإيحاءات البصريّة المستخدمة في حملة أبعاد قد تعلق في رأس المشاهدة عن الأدوات المستخدمة في الانتحار، أو قد تعتقد أن الانتحار يعتبر حلاً لما تعانيه”.

وأضافت أنها “قد تحرّك الذكريات الجسدية والمعرفية والعاطفية، لتعود وتطفو على سطح الوعي”.

وأوضحت أن هذه الذكريات “تسبب أزماتٍ نفسيّة، لأنها قد تنشّط في بعض الحالات، منطقة المشاعر المصاحبة للبصر”.

فهل فكرت المسؤولات عن إطلاق الحملة للحظات، قبل أن يخطين خطواتهن في إحياء ذاكرة الخوف لدى النساء؟

في فيديو نشرته أبعاد سابقاً تحت هاشتاغ مين الفلتان، عن فتاةٍ تتعرّض للتحرش في الشارع، وُصف بالـ”صادم” وبأن الهدف من هذه الصدمة هو التنبيه على خطورة التحرّش الجنسي وأثره على النساء، لم تأخذ أبعاد بعين الاعتبار النساء والفتيات.

وها هي مجدداً تستخدم ألمهن بفظاظة من يملك رفاهية العيش المعافى، أو العيش المتسامي على الواقع.

لتصدم من؟ المجتمع الأبوي؟ المعنفين؟ النظام السياسي؟

وهم يتلذذون من وقع سطوتهم، وربما من بقع الدم المطرطشة أمامهم.

إقصاء متعمّد أم سهو؟

وفي دراسةٍ موازية للحملة نشرتها أبعاد بالتعاون مع موقع ميغافون، نجد في استبيانها سؤالاً يبدو للوهلة الأولى طفولياً: “ليش ما بلّغتي؟”.

إنها الرفاهية ذاتها في اختيار السؤال وصياغة الإجابات:

الخوف من ما يسمى “جرائم الشرف”، وتشويه السمعة، ومن عدم تصديقها، وانعدام ثقتها في الوصول إلى نتيجة، مذيلة بعبارة “العقوبة ليست جديّة”.

صياغة الإجابات تلطّف دور المجتمع الأبوي في تعزيز مفاهيم مثل “الشرف”، والتمييز في المؤسسات، والطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها المرأة، والوضع الاجتماعي.

ليس ذلك فقط، بل تضع خياراً واحداً ممكناً للإجابة.

كأن كل هذه الاحتمالات تأتي فرادة، بدلاً من أن تكون غالبيتها معبّرة عن عنفٍ ممأسس ينتجه النظام بأشكالٍ متعدّدة، وبدرجاتٍ متفاوتة.

كما أنها تقتصر على إجابات نساء من الجنسيات اللبنانية والفلسطينية والسورية فقط!

وكأن النساء خارج هذه الثلاثية، الموجودات في لبنان، لا يتعرّضن لأي عنف، خصوصاً العاملات الأجنبيات، والعابرات، والعاملات في الجنس.

فلماذا تم تجاهل الإضاءة على معاناتهن أيضاً؟ هل سقطن سهواً من الدراسة؟

كما سقط سهواً أن امتياز الرجل في مجتمع بطريركي يمنحه السلطة والنفوذ لتنفيذ جرائمه، والحصول على تغطية مجتمعيّة مبرّرة عنفه بالـ”شرف والقوامة”، عبر هاشتاغ يلقي الضوء على أنّها مشكلة اجتماعية ترجع للعادات والتقاليد، وليست مبنيةً على تاريخٍ طويلٍ من الاستعباد، والتهميش، والفوقيّة الذكوريّة.

وأن رجال القانون الذين نُسحق على أعتاب محاكمهم، لن يهتزّ لهم رمش لرؤية امرأةٍ تُقتل.

بينما هم يقتلون المئات منا كل يوم، بأحكامهم وتشريعاتهم.

أو أن ما حدث هو ما أسماه البعض بالـ”إقصاء المتعمّد لهذه الفئة”!

فجمعيّة مثل أبعاد، بتمويلها وعملها الدائم والمتمرّس على موضوع العنف القائم على النوع الاجتماعي، و أشكاله، والمتضررات منه، لن تنسى بكل بساطة هذه الفئات، بل تستبعدهن عمداً بعدم الإشارة إليهن في دراستها.

كما أن الإحصاء الذي نشره ميغافون في دراسة شملت 1800 امرأة، بالتعاون مع أبعاد، بيّن أن 1 من أصل 20 امرأة تعرّضن للاعتداء الجنسي.

وهذا رقم مثير للجدل. فمن منا لم تشهد في أسرتها المكونة من 3 نساء مثلاً، حالتان تعرضتا للاعتداء والعنف الجنسي؟

لست هنا بصدد إعطاء دروسٍ في النسوية، وفي ما يجب وما لا يجب فعله.

لكنني أتساءل، ما الذي تحقّقه هذه الحملات الصادمة بعد الاستفاقة من تداعيات الصدمة؟

وما هو تأثير هذه المقاربات على قضايا المتضررات على الأمد البعيد؟

أو هو مجرّد تمويل وبابٍ للرزق مفتوح على حساب النساء؟

 

كتابة: مهاد حيدر

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد