“مهرجان المغتصبين والمعنفين”.. كيف بُعثَ جوني ديب إلى السجادة الحمراء؟

“مهرجان المغتصبين والمعنفين”، هكذا وصفت النسويات الفرنسيات النسخة السادسة والسبعين من مهرجان “كان” السينمائي الدولي، بعد ظهور جوني ديب.

ففي بيانٍ تحت عنوان “العار”، عبّرت المجموعات النسوية الفرنسية وعلى رأسها (Osez Fe Féminisme)، مع عددٍ من الممثلات/ين عن غضبٍ تجاه إدارة المهرجان.

وأدان البيان “ترحيب المهرجان بالرجال المعنفين والمغتصبين، وفتح الأبواب لهم كأن شيئًا لم يكن. بينما يتم دفع النساء نحو الصمت والتواطؤ، أو ترك المهنة نهائيًا، كما حدث مع أديل هانيل (Adèle Haenel)”.

تعتبر “أديل” أول ممثلة فرنسية تفضح كواليس صناعة الأفلام، وكيف تتعرض العاملات فيها للاعتداءات الجنسية المتكررة. واشتهرت “أديل” بمواقفها الاعتراضية أثناء المهرجانات وخطاباتها القوية، والتي انتهت باعتزالها الفن هذا العام. وذلك اعتراضًا على ما وصفته بـ “ذكورية وعنصرية ورأسمالية الوسط الفني السينمائي”.

احتفاء متكرر بالمعتدين في مهرجان “كان”

لكن هذه الصرخة النسوية ضاعت وسط أصوات الفلاشات وأضوائها، وهتاف الصحافيات/ين والمعجبات/ين، وصخب الأزياء والمجوهرات.

هذه ليست المرة الأولى التي يُثار الجدل فيها حول المهرجان، بسبب الأعمال المعروضة ومعايير اختيار الفائزة منها، أو بسبب النجوم والنجمات. ولا المرة الأولى، قطعًا، التي يحتفي فيها واحدٌ من أهم مهرجانات السينما في العالم بمَن يعتدون على النساء. فسبق وعرض سنة 2017 فيلمًا لـ”رومان بولانسكي” الهارب من العدالة الأميركية منذ سنوات بعد اغتصابه لقاصرٍ غائبة عن الوعي.  لم يتوقف “بولانسكي” عن العمل والظهور الإعلامي والفني في فرنسا حيث يقيم، ويحظى بدعم العديد من النجوم.

كما سبق وكرّم المهرجان المخرج “وودي آلن” (Woody Allan)، رغم اتهامه بالاعتداء على ابنته بالتبني، عملًا بمبدأ فصل الفنان عن الرجل. وهو المبدأ السحري الذي يبرر الجرائم، حسب درجة شهرة وإبداع مرتكبيها.

علاوةً على ذلك، تم تجاهل تصريحات بطلتي فيلم “حياة أديل”، لمخرجه عبد اللطيف كشيش، حول ظروف التصوير القاسية للمشاهد الجنسية. ولم يلتفت أيضًا لمغادرة ممثلة فيلمه التالي، “مكتوب.. ماي لاف” للقاعة، اعتراضًا على عرض مشاهد جنسية دون موافقتها. وغيرها من المواقف شديدة السلبية تجاه مطالب العاملات في مجال صناعة السينما.

مهرجان “كان”.. وعودٌ زائفة بالتغيير

تأني هذه النسخة من مهرجان “كان” بعد وعودٍ مستمرة لتعديل كفة المشاركات ولجان التحكيم من أجل تمثيل أكبر لصالح النساء والأقليات.

مثل كل عام، تتضح عدم جدية القائمات/ين والمنظّمات/ين على التعاطي مع مطالب الممثلات والمخرجات والنسويات، والعاملات في مجال صناعة السينما والترفيه.

بمرور الأعوام، تتزايد أعمال المخرجات المشاركات في المسابقات السينمائية، ويزداد عدد عضوات لجان التحكيم، وحتى رئيساتها. لكن لايزال العدد أقل من المتوقع، والفرص بعيدة كل البعد عن أن تكون متكافئة. إذ يهتم الجميع أكثر فأكثر بأزياء الممثلات، وتسريحات المخرجات على حساب أعمالهن. ويطغى الجانب الاستعراضي، دون أن يجد أحدٌ في ذلك حرجٌ يُذكر.

هذه السنة تحديدًا، كانت الأصوات أعلى، من خارج الوسط ومن داخله كتقليدٍ جديدٍ، ربما يعصف بالمهرجان العالمي قريبًا. هذه السنة كان نجم المهرجان هو جوني ديب، بطل فيلم الافتتاح. يعود ديب إلى الأضواء، بعدما استحوذت قضاياه مع شريكته السابقة أمبر هيرد، على اهتمام العالم، وشهدت تغطية غير مسبوقة لقضية شخصية.

الذكورية.. بطلة مهرجان “كان” لعام 2023

عبر جوني ديب بوابة المهرجان بفيلمٍ فرنسي، بعد أن قاطعته هوليوود ومنتجوها، وحصل على دعاية مجانية تفوق توقعاته. رغم لكنته الركيكة وأدائه السيء، الذي لم يستطع حتى أعتى الذكوربين في مجال النقد الفني تمريره أو تجاهله.

لم يتواجد الممثل الأميركي فقط كضيف، بل حظي بشرف أن يكون فيلمه فيلم الافتتاح. حيث جرت العادة أن يكون فيلم الافتتاح هو الحدث الأهم، ويشهد تواجد أكبر عدد من المصورات/ين والصحفيات/ين.

سبع دقائق.. لم تكن هذه مدة ظهور جوني ديب على الشاشة، أو على سجادة المهرجان الحمراء. إنما كانت سبع دقائق من التصفيق الحار وصافرات الإعجاب التي استقبله بها الجمهور والنجمات/ النجوم الحاضرات/ون، بعد انتهاء عرض فيلمه “جان دو باري”.

سبع دقائق قد تكون كافية لقتل امرأة أو اغتصابها داخل غرفة مغلقة. وكانت كافية لتطبّع عودة ديب للسينما والشهرة والاحتفاء.

هذه الدقائق كافية لتشعر كل ناجية بأن هذا العالم اختار الوقوف في صف المعتدين. دقائق قليلة كافية لتشعر كل امرأة منّا أن رياح التغيير التي تخيّلنا أن حملة “أنا أيضًا” أطلقتها ستستمر لبضعة أعوام على الأقل.

أصبحت الإطاحة بأصحاب الامتيازات من الرجال المستغلين لمناصبهم، مجرد ذكرى ومرت، كنسمةِ صيفٍ عليلة. وذلك بمجرد أن استفاق الوسط الأشهر عالميًا من ذهوله، والتقط أنفاسه وضحى باسمين أو ثلاثة، لتستمر العجلة في الدوران على أجساد النساء.

جوني ديب.. بين البعث والعبث

اختارت إدارة المهرجان، هذه السنة، فيلم (Jeanne du Barry) لتفتتح به الموسم السينمائي للمنافسة على الجوائز. قد يبدو لأول وهلة مجرد فيلمٍ تاريخي آخر، نشاهد فيه فساتين يتجاوز قطرها المترين وشعرًا مستعارًا من عدة طوابق. لكن مخرجته والممثلة الرئيسية مايوين لو بيسكو (Maiwenn Le Besco) كان لها رأي آخر.

حظي الفيلم بميزانية سخية، غير معروفة حتى الآن، من مهرجان البحر الأحمر المقام في السعودية. وذلك كاستمرارٍ لجهود المملكة في تلميع صورتها، والظهور كدولة تقدمية تهتم بالفن وتمنح الجميع ما يحتاجونه فقط من أجل “الإبداع”.

حيث أعلنت أنها بصدد إنجاز فيلم “نسوي”، عن واحدة من أكثر الشخصيات التاريخية الفرنسية ثراءً من الناحية الدرامية: “كونتيسة باري”. وبلغ الجدل المحيط بالفيلم ذروته مع تواجد جوني ديب على السجادة الحمراء. لكنه لم يكن النقطة الوحيدة التي أثارت زوابع النقاشات والاستنكارات والدعم.

اختيار المخرجة لموضوع الفيلم وكذلك موافقة جوني ديب على العودة بهذا الفيلم تحديدًا لم يكونا عبثًا. ولا يمكننا إلا أن نلاحظ الإشارات المرسلة عبرهما. يعود ديب إلى السينما والأضواء كملك متوّج مجددًا في الواقع وفي الفيلم. حيث يجسّد دور الملك لويس الخامس عشر، الملقب بـ”لويس المحبوب”.

“كونتيسة باري”، والتي تتوحد معها المخرجة المعتادة على طرح أفلام شبه شخصية، عاشت طفولة صعبة وفقيرة. في بدايات مراهقتها، تدخل علاقة مع رجلٍ يكبرها بالعمر، ويقدمها فيما بعد لبلاط الملك لويس الخامس عشر. يختارها الملك لتكون عشيقته المفضلة، رغم رفض محيطه لها بسبب أصولها.

رأى العديد من النقاد والمتفرجون انعكاسًا جديدًا لقصة حياة “مايوين” التي عانت في طفولتها من العنف المنزلي. وأقرّته المخرجة، من خلال شخصية “جان باتيست دو باري” (Jean Baptiste du Barry)، عشيق الكونتيسة الذي قدمها للملك ولحياة القصر. إذ يتشابه مع المخرج لوك بيسون (Luc Besson) الذي قدّم مايوين لعالم الشهرة في بدايات مراهقتها كممثلة في أفلامه، وأيضًا كزوجة قاصرة.

حظي الفيلم بميزانية سخية، غير معروفة حتى الآن، من مهرجان البحر الأحمر المقام في السعودية. وذلك كاستمرارٍ لجهود المملكة في تلميع صورتها، والظهور كدولة تقدمية تهتم بالفن وتمنح الجميع ما يحتاجونه فقط من أجل “الإبداع”.

المخرجة التي بعثت “جوني ديب” من جديد

جدير بالذكر أن المرشح الأول لبطولة الفيلم كان الممثل الفرنسي الأشهر على الإطلاق جيرار دو بارديو (Gérard de Pardieu)، الملاحق حاليًا في القضاء بتهم الإعتداء الجنسي على ما لا يقل عن 20 امرأة.

وكي نفهم الصراع الذي لا زال دائرًا حتى بعد انتهاء المهرجان، من الضروري أن نعود إلى شخصية المخرجة والممثلة أيضًا. فهذه ليست سابقتها الأولى لدعم رجال معنّفين.

عرف الجمهور اسم مايوين من خلال مشاركتها في الفيلم الشهير “ليون”، (Léon 1994)، لكن ليس كممثلة. إنما بسبب علاقتها بمخرج الفيلم (Luc Besson) أثناء التصوير، وهي لم تتجاوز الـ15 من عمرها. ثم توالت أعمالها كممثلة ومخرجة تحصد الجوائز في العديد من المهرجانات الفرنسية والعالمية.

ابتعدت فترة عن الأضواء، وعادت بفيلم بصيغة وثائقي عن الممثلات الفرنسيات، حفل الممثلات الراقص (Le Bal Des Actrices). وتم تداول أخبار حول تعرّض مَن رفضت المشاركة في الفيلم للعنف اللفظي والتشهير والتجريح. وعانت مَن شاركن من ظروف تصوير مرهقة، واشتكت بعضهن من تصوير وعرض لقطات، دون علمهن وموافقتهن.

ثم كان فيلم “پوليس” (Polisse) الذي حقق إيرادات خيالية، وحاز على جائزة مهرجان “كان” عام 2011. وتابعت فيه يوميات فريق شرطة متخصص في حالات العنف ضد القاصرات/ين، وهو موضوع تعرفه مايوين بشكلٍ شخصيٍّ وحميم. إذ عاشت طفولة مع أسرة عنّفتها نفسيًا وجسديًا، مثلما صوّرته بشجاعةٍ مبهرة في فيلمها الأول “سامحوني” (Pardonnez-moi).

نمط في دعم المعتدين

رغم إشادة الجمهور والنقاد/ الناقدات وجمعيات حماية الطفل بفيلم (Polisse)، إلا أن هناك مَن لم يستسغ استعانتها بالرابر والممثل جوي ستار. كان ستار شريك حياتها في تلك الفترة، وتم الحكم عليه في عدة قضايا عنف ضد شريكاته السابقات، أو نساء أثناء تأدية عملهن.

ثم وصلها إعصار أنا أيضًا – (Me too). حيث كانت ممَن وقعن على بيان الدفاع عن “الحق في المضايقة”. وتمنت أن يتحرش بها الرجال لسنين قادمة طويلة، حتى تشعر أنها “جميلة ومطلوبة”.

دافعت مايوين علنًا عن المخرج رومان بولانسكي والمتهم في قضية اغتصاب قاصرة. كما دافعت عن طليقها المخرج لوك بيسون المتهم في قضايا اغتصاب هو الآخر. وتم اتهامها في قضيتي عنف و اعتداء.

الأولى رفعتها الممثلة والمخرجة جولي غاييه (Julie Gayet)، عقب تهديد مايوين لها بالذبح بعد أن طلبت منها المشاركة في وثائقي تخرجه عن العنف الزوجي. والواقعة الثانية كانت الاعتداء بالضرب على الصحافي (Edwy Plenel) رئيس تحرير شبكة الإعلام المستقل “ميديابار” (Mediapart). بعد أن نشر تحقيقات حول الاتهامات المنسوبة لطليقها.

“جوني ديب” والاختيار الموفق

على ضوء هذه الوقائع، فإن اختيار جوني ديب لبطولة فيلمها الأخير متسق مع مواقفها السابقة واختيارها موضوع الفيلم.

رغم فوز عدد من النساء بجوائز مهرجان “كان”، إلا أنه كان إنجازًا منقوصًا. يبدو أنه مقصودٌ لامتصاص الأصوات الغاضبة، أكثر من كونه اقتناعًا بمكانة النساء داخل صناعة السينما.

إذ صوّر الفيلم جميع الرجال داعمين للكونتيسة ويحيطونها برعايتهم غير المشروطة وصداقاتهم المخلصة. بينما تعاديها النساء، ويحاولن الإيقاع بها، لأنها “أذكى وأجمل”، وتمكنت من الحصول على قلب الرجل الأكثر نفوذًا، الملك.

هذا هو العالم، كما تراه مايوين (Maiwenn) في الواقع، وفي الفن. لذا، لا تجد غضاضة في الدفاع عن مغتصبين ومعنّغين ومحاباة التيار الذكوري. ربما لأنها تسعى لخلق مساحة لنفسها في مجال صناعة السينما التي تقوم على التهميش والتشييء الجنسي للنساء.

رغم فوز عدد من النساء هذه السنة بجوائز مهرجان “كان”، إلا أنه كان إنجازًا منقوصًا. يبدو أنه مقصودٌ لامتصاص الأصوات الغاضبة، أكثر من كونه اقتناعًا بمكانة النساء داخل صناعة السينما. أو عن رغبة في توفير بيئة خلقٍ وإبداع آمنة ومريحة لهن، وسط المعتدين والمغتصبين والمعنّفين. هؤلاء الذين تُبسَط لهم السجادة الحمراء سنة تلو الأخرى، بحجة فصل الفن عن الفنان، والشخصي عن السياسي. كما لو أن السينما والفن منعزلان عن الواقع.

انتهى مهرجان “كان” وسيعود السنة القادمة بنفس الصخب ونفس الأضواء، ليحتفي مجددًا بمن يجعلون حياة النساء جحيمًا.

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد