باربي.. دمية “نسوية” أم أداة للتشيء الجنسي والتمييز الجندري؟
“Hey Barbie”.. ما أنّ نطق بها المقطع الدعائي معلنًا عن بدء عرض فيلم باربي بلونه الوردي الزاهي في سينمات العالم حتى امْتَعَضت. ماذا أرى؟! هل تتنصّل الدمية الأشهر في العالم من تأثيرها في إرساء دعائم التشييء الجنسي للنساء والنظرة النمطية لهن في القرن العشرين؟
بين ليلةٍ وضحاها، غزا اللون الوردي الزاهي محرك البحث جوجل، ترحيبًا بعرض فيلم باربي. وانْتفَضَت المواقع الفنية الأجنبية بسيلٍ جارفٍ من المقالات المُشيدة بالفيلم؛ بحجة أنه “فيلمٌ نسوي ذكيً”. بينما ما يزال نقد الدمية وإعادة إحياءها هذا العام بكل ما تحمله من تنميطات مستمرًا في الدوائر النسوية.
احتفى الفريق الأول بالفيلم الذي تم إنتاجه داخل صناعة يسيطر عليها الرجال، وتهمش قضايا النساء. حتى لو بدا العكس في ظاهره، لا يمكن إغفال أن الفيلم إشكاليّ. وذلك بالنسبة إلى جهود حركة إيجابية الجسد وزيادة الوعي بقبول تنوعات أجساد النساء المختلفة. بالإضافة إلى العودة الصارخة إلى التنميط الجندري الذي رسّخته الدمية على مدار عقود بلونها الوردي.
الأنكى من ذلك، أن فيلم باربي يبشر بوجود ما سماه “العالم الحقيقي”. هذا الذي تتحقق فيه المساواة الكاملة بين الرجال والنساء، ومكانه “Barbie Land”. حيث لافتة عملاقة كتب عليها: “Real world.. This way”. في حين أن الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” صرّح بأن هذا “الحلم الوردي” بات أبعد بمسافة 300 عام. مضحك جدًا، أليس كذلك؟
يجب على شركة الألعاب “ماتيل” إدراك مسؤوليتها التاريخية عن دعم التشييء الجنسي للنساء على مدار أكثر من ستين عامًا، والعمل بجدية على الحد من “تأثير باربي” وتحدي الأدوار النمطية.
خداع الغسل النسوي في فيلم باربي
مثلت دمية باربي جزءًا لا يستهان به من طفولتي. أزينها وأصفف شعرها وأتمنى أن أكون جميلة مثلها، متماهية تمامًا مع سطوة معايير الجمال الأبوية. تلك التي فرضت عليّ، شأني شأن سائر نساء العالم، لضمان الحصول على القبول الاجتماعي. كلُ ذلك في ظل ثقافة شعبية سائدة تستند إلى المقارنات بين النساء، لتتويج “أجملهن”، ضمن أحداث دراما مأساوية كتبها وأخرج فصولها النظام الأبوي الرأسمالي. أدت الدمية باربي فيها دور الشرير الخفي، لأكثر من ستين عامًا.
تبدو الدمية الأشهر في العالم حاليًا وكأنها تعيد اختراع نفسها، داخل شريط سينمائي لغريتا غيرويغ (Greta Gerwig) ومارجو روبي (Margot Robbie). يصنف نفسه كفيلم كوميدي رومانسي، لكنّه يتخذ نهجًا خياليًا أكثر من ذاك الموجود من عالم الألعاب، عبر تقديمه ادعاءات كاذبة. “باربي النسوية” تسعى إلى تمكين بنات جنسها، وتتخلى عن ضحالة ثنائية “الجميلة الغبية”، كما سبق وتخلت أميرات ديزني عن عبثية ثنائية “الأميرة والمنقذ”.
ويأتي ذلك تماشيًا مع روح النيوليبرالية السائدة في القرن الحادي والعشرين، ومتطلبات الانضمام إلى معسكر النسوية الليبرالية. إذ تُعرف الأخيرة بـ”نسوية الشركات”، الداعية إلى إحداث تغيير في النظام الرأسمالي الأبوي من الداخل. وذلك لحفظ المكاسب والامتيازات التي حصلت عليها فئات معينة استطاعت مراكمة الثروات عبر استغلال الأوضاع الرأسمالية القائمة. يختلف ذلك جذريًا مع الجهود النسوية الراديكالية الساعية إلى هدم الأبوية وبناء عالم أكثر عدالة وإنسانية.
View this post on Instagram
بين الغسيل النسوي والخداع الرأسمالي
ومن رحم هذا التلاعب بالأهداف، لجأت شركة “ماتيل” (Mattel) المصنعة لدمية باربي إلى أساليب الخداع الرأسمالي. وذلك عبر ارتداء ثوب نسوي زائف أو ما نسميه “الغسيل النسوي” (Feminism-Washing). ويعد الغسيل النسوي أحد أشكال الإلتفاف على مكاسب الحركات النسوية القاعدية. قصدت باربي تبييض سيرتها، وإخفاء استراتيجياتها التسويقية المعادية للنساء، المتجذّرة في تاريخ علامتها التجارية منذ نشأتها.
يمكننا القول ببساطة أنها محاولة خروج آمن من أزمتها في ظل الصعود المتنامي لمتطلبات الموجة الرابعة من الحركة النسوية العالمية. حيث تدعو إلى ضرورة القضاء على التسليع والتشييء الجنسي للنساء والنظرة النمطية لأدوارهنّ داخل المجتمع. وأحد أهم أدواتها هو تفكيك النمطية المتجذرة في الثقافات والممارسات والخطابات، ومنها بالطبع ألعاب الطفلات/الأطفال. إذ تساهم هذه الألعاب في النشأة الاجتماعية للأفراد على ثنائيات جندرية محدودة وأدوار تنميطية.
ويا حبذا طبعًا إذا نجحت الشركة في مُراكمة المزيد من المبيعات بجانب غسل سمعتها من تهمة التحيز الجنسي بضربة يد واحدة. وبالتالي، وقفت وراء فيلم باربي مطبقة بذلك الدرس الأول للرأسمالية الذي يقضي بضرورة تحقيق الربح عبر استغلال كافة الظروف.
حقيقة الاستراتيجية التسويقية لدمية باربي
يثبت تاريخ نشأة الدمية باربي في عالم المال والأعمال أنها ليست علامة تجارية في مجال صناعة الأعمال فحسب. بل هي رمزٌ ثقافيٌ يقوم على التحيز الجنسي والعنف ضد النساء. إذ تزامنت أول إطلالة لباربي مع خفوت صوت الموجة الأولى من الحركة النسوية في نهاية خمسينات القرن المنصرم. كان ذلك تحديدًا في مارس 1959، داخل معرض الألعاب بمدينة نيويورك. بعدما عكفت سيدة الأعمال الأمريكية روث هاندلر (Ruth Handler) على تصميمها وتطويرها، بزعم مساعدة الصغيرات على الحلم بمستقبلهن.
تذكر روث هاندلر تأثير باربي في مذكراتها المعنونة “حلم دمية” (Dream Doll). تقول: “تمكين كل فتاة صغيرة من أن تكون ما تريد كانت فلسفتي من وراء هذه الدمية. إذ ستمثل باربي حقيقة واحدة دائمًا، أن النساء يملكنّ خيارات كثيرة”. فهل فعلت ذلك حقًا؟!
باتت باربي وألوانها الزهرية تنميطًا وعبئًا إضافيًا على الفتية، الذين ينشأون في مجتمعاتٍ تُنكر حقهم في اللعب بما يتم تسميته “ألعاب الفتيات”، تجهيزًا لدور “الرجل”.
التسليع الجنسي للنساء متجذر في باربي
بدأت روث هاندلر خط إنتاج أول دمية في العالم تبدو مثل الكبار، فصممت دمية بلاستيكية يبلغ طولها 30 سم. ترتدي الدمية لباس البحر، وتمتلك خصرًا نحيلًا وسيقانًا طويلة. أثداؤها منتفخة ومؤخرتها كبيرة، وبشرتها ذات بياض ناصع، ولها شعر ذهبي لامع مزموم في هيئة ذيل حصان. ومن هنا، روّجت لها على أنها فتاة مراهقة تمتهن عرض الأزياء، ناشرة هوس اللون الوردي أو ما يعرف ب”باربيكور” (Barbiecore)، في كافة أنحاء العالم.
مع مرور الزمن، وعلى الرغم من محاولات الشركة المصنعة تنويع الخيارات المهنية المتاحة أمام باربي، ظلّ التركيز الرئيسي لخيارات العمل محصورًا في مجاليّ الموضة والأزياء والمهن المتعلقة بهما. ساهم ذلك بتعزيز التوقعات السائدة عن النساء، بأنه عليهنّ امتهان وظائف مرتبطة بالأدوار الجندرية النمطية في المقام الأول. وتجاهل الفرص في المجالات العلمية والتكنولوجية أو السعي لنيل المناصب القيادية، والتي تعاني جميعها من فجوة جندرية بالفعل.
وساهم ذلك من دون شك في ترسيخ الأدوار والفجوات الجندرية. بجانب تكريس التوقعات المجتمعية بأن النساء يجب أن يعطين الأولوية لمقاييس الجمال، وتغليب المظهر الخارجي عن الجوهر الداخلي، من أجل اكتساب القبول الاجتماعي. أدى ذلك إلى تثبيت أقدام ثقافة الحكم على النساء من مظهرهنّ الجسدي، بدلًا من قدراتهن أو إنجازاتهن أو مدى نموهن الشخصي والمهني أو استقلالهن بقرارات تخصّ أجسادهن. وكنتيجة، تحول تأثير باربي من كونها دمية متربعة على عرش صناعة الألعاب إلى رمز ثقافي متحيّز ضد النساء.
View this post on Instagram
تأثير باربي وبداية الموجة النسوية الثانية
بتدقيق النظر إلى السياق التاريخي، نجد أن دمية باربي نشأت كعلامة تجارية رأسمالية بعد المكاسب التي حققتها الموجة النسوية الأولى. وكانت أهم هذه المكاسب، اقتحام النساء ميادين العمل والإنتاج وانتزاع حقهن بالتعلّم والاقتراع.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعودة الجنود من أرض المعركة إلى أرض المصنع، أرادت الرأسمالية إزاحة النساء عن المجال العام وحشرهن في منازلهن مرةً أخرى. وذلك بهدف استغلالهن في عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي. هذه العملية، بالطبع، تكون عبر تأدية الأعمال المنزلية والأدوار الرعائية غير المأجورة. كما بالسهر على راحة أزواجهن أصحاب الأيدي العاملة تحت وطأة الرأسمالية الاستغلالية. يحملن ويلدن، ويجهّزن الأجيال القادمة للعمالة المستقبلية.
ومن هنا، جاءت دمية باربي حاملةً بدلالها رسالة تسويقية متأصلة بخبثٍ في علامتها التجارية. وتؤكد، بطريقة غير مباشرة، على وجوب تقسيم الأدوار النمطية، بالتركيز على تمثيل جانب الجمال والأناقة والأزياء والمنزل في ألعاب الفتيات بعيدًا عن جانب التوجهات العلمية والتكنولوجية في ألعاب الأولاد. لكن هذا التوجيه الحصري للفتيات، لم يخلُ من استبعاد الفتيان من اللعب بالدمية، ووصمهم إن بدا عليهم رغبة في اللعب بها.
في هذا السياق، باتت باربي وألوانها الزهرية تنميطًا وعبئًا إضافيًا على الفتية، الذين ينشأون في مجتمعاتٍ تُنكر حقهم في اللعب بما يتم تسميته “ألعاب الفتيات”، تجهيزًا لدور “الرجل”. يحدث ذلك بالتزامن مع سياساتٍ وثقافاتٍ تؤصّل الفرق الجندري الثنائي منذ الطفولة. فالألعاب التي لا يجب أن تقتصر على هوية اجتماعية واحدة، هي نفسها منقسمة جندريًا. فتكبر الطفلات/الأطفال على أن ذلك هو “العالم الحقيقي”، الذي تدعي “باربي النسوية” اليوم أنها تدعو إليه.
تاريخ حافل بالنمطية
خلال الفترة الزمنية الممتدة من خمسينات إلى ستينات القرن المنصرم، كانت الكاتبة الأمريكية بيتي فريدان (Betty Friedan) تناضل للكشف عن الأسباب الكامنة وراء شيوع حالة من التعاسة بين النساء الأمريكيات المتعلمات القابعات في منازلهن. إذ سادت حالة من الكآبة بين خريجات الجامعات غير العاملات. وجعلتهن “يعانين من موت العقل والروح البطيء”، بحسب ما وصفته فريدان ضمن صفحات كتابها الهام “اللغز الأنثوي” (The Feminine Mystique) والذي نجحت في نشره عام 1963.
وجهت “بيتي فريدان” أصابع الاتهام إلى أساليب الرأسمالية المستخدمة في الدعاية والإعلام والصحافة، لترويج السلع والمنتجات خلال تلك الحقبة. إذ تم حصر أدوار النساء في كونهن أمهات “صالحات“، وربات منزل سعيدات، عليهن الاستهلاك المفرط، وتكريس حياتهن لإمتاع شركائهن وممارسة العمل الرعائي فقط.
وربطت ذلك بالتسلسل الهرمي بين الرجال والنساء كهويات اجتماعية سائدة، بجانب صورة مثالية غير واقعية لـ”الأنوثة المنشودة”. هذه التي يفرض عليهن السعي لتحقيقها، للوصول إلى الإشباع العاطفي، والراحة النفسية داخل الأسرة النووية. وهذا، تمامًا، ما تعمّدت باربي فعله على امتداد تاريخها في صناعة الألعاب.
في النهاية، كان يجب على شركة الألعاب “ماتيل” إدراك مسؤوليتها التاريخية في دعم التشييء الجنسي للنساء على مدار أكثر من ستين عامًا، والعمل بجدية على الحد من “تأثير باربي” وتحدي الأدوار النمطية. ولن يحدث ذلك إلا عبر تحوّلٍ ملموسٍ في الصناعة، وتقديم ألعاب أكثر شمولاً، تمكّن جميع الطفلات/الأطفال من اكتشاف اهتمامات وخيارات مهنية متنوعة. وبناء عليه، تساهم في بناء مجتمع أكثر عدالة ومساواة للجميع، لا الوقوف وراء إنتاج شريط سينمائي يمارس الخداع الرأسمالي باسم النسوية.