أسطوات النقاشة.. مصريات يكسرن تابوهات الذكورية ويواجهن وصم المجتمع

تعد مهنة النقاشة واحدة من المهن الصعبة و الخطرة في مصر. حيث تتعرض/يتعرض العاملات/ون فيها لإصابات عدة، خصوصًا في أعمال الطوابق العليا. ويعتبرها المجتمع المصري مهنة ذكورية تقتصر على الرجال. إلا أن هناك نساء احترفنها بكفاءةٍ عالية أثبتن معها أن “لا مهنة للرجال فقط“. 

في هذا النص، نعرض قصص 3 نساء مصريات، يحملن لقب “أسطى” في مجال النقاشة، الذي كان حِكرًا على الرجال في الماضي. ولفظ “أسطى” يعني المُعلِم أو الأستاذ، أو الشخص ذي الخبرة والسلطة. لكن هؤلاء النساء قُمن بتأنيثه، ليحمل معنى المُعلِمة والأستاذة، وذات الخبرة.

نرمين، هاجر، وهبة. هن أسطوات النقاشة اللواتي يأخذننا في رحلة شيّقة وشاقة أيضًا لمعرفة مهنة النقاشة وكيف نجحن فيها وسط تحديات كونهن نساء.

في ظل تكرار إصابات العمل، من الضروري وجود نقابات عمّالية للعاملات/ين في مجال النقاشة في مصر. إذ أن أغلبهن/م لا يحصلن/ون على تأمينات صحية تغطي نفقات العلاج.

الأسطى نرمين النقّاشة

قبل عقدين، اقتحمت نرمين ناجح (38 عامًا)، المولودة في محافظة الفيوم بصعيد مصر والمقيمة بالقاهرة مجال النقاشة لمساعدة زوجها في عمله.

بدأت أول عمل لها بعد زواجها بـ15 يومًا، نظرًا لضغط العمل على الزوج وضرورة تسديد مصروفات الزواج. لكنها قررت استكمال رحلة عملها بتلك المهنة التي عشقتها. أصبحت نرمين أول نقّاشة مصرية، وتم تكريمها من عدة جامعات مصرية، منها الجامعة الأميركية بالقاهرة، وجامعة عين شمس.

في مقابلة خاصة لـ”شريكة ولكن”، تقول نرمين: “لم يكن عملي بمجال النقاشة صعبًا. فمنذ المرحلة الإعدادية، كنت أعمل في محل بيع دهانات (طلاء). بعد زواجي، قررت مساعدة زوجي في العمل، وبمرور الوقت، أحببت المهنة. وحبي لها هو السبب الرئيسي في استمرار عملي كنقاشة، رغم التحديات التي تواجهني”.

 

ترى نرمين أن كونها امرأة ساعدها كثيرًا، خصوصًا في ظل انتشار آفة التحرش الجنسي من بعض العمال الرجال. وهي الفجوة التي استخدمتها نرمين لصالحها. فوجود عمالة نسائية، يُقلل من تعرض النساء للتحرش الجنسي، تحديدًا لو كنّ بمفردهن.

تؤمن نرمين بأنه لا يوجد مهنة تقتصر على هوية اجتماعية بعينها، لا سيما بعد أن واجهتها انتقادات حادة لكونها امرأة. إذ ترى أن الإتقان والكفاءة هما الأساس الذي يجب الحكم على عملها من خلاله.

النقاشة.. بين الصعوبات والنجاح

من حينٍ لآخر، تتلقّى نرمين تعليقات مزعجة بسبب مهنتها. منها مثلًا: “روحي اعملي أكل لعيالك”، “إنتي متبرجة ومتشبهة بالرجال وشغلك ده ذنب كبير”.

لم تزدها تلك التعليقات إلّا إصرارًا على مهنتها ورغبتها في استكمالها. تقول ردًا على التعليق الأخير: “لو شغلي ذنب، يارب كثر من ذنوبي”.

نجاح نرمين وكفاءتها تسببا في شهرةٍ واسعة. حيث يطلبها الزبائن لتقوم بأعمال نقاشة في محافظات خارج القاهرة. منها محافظات البحر الأحمر، الإسماعيلية، السويس، الشرقية، ومحافظات أخرى ذاع صيتها فيها.

نجحت في تشطيبات المساجد والكنائس التي تحتاج إلى جهودٍ كبيرة وحرفية عالية، بسبب أعمال الترميم والزخارف المعقدة. رغم ذلك، تتعرض نرمين لحوادث مختلفة باستمرار. حيث تعرضت لكسور متفرقة بأنحاء جسدها. علاوةً على دخول مواد كيميائية من الطلاء في عينيها، مما أدى إلى ضعف بصرها.

تحزن نرمين كلما اضطرتها إصابات العمل إلى الإجازة. تقول: “لو إيدي نعمت شوية بحزن والله. الدهانات بتوحشني. حياتي متعلقة بالمهنة رغم متاعبها ومخاطرها. بناتي تعلمن مني طلاء الموبيليا. كما يساعدنني في أعمال ورشة طلاء الأثاث التي قمت بتأسيسها”.

الأسطى هاجر.. نقّاشة منذ الصبا

اقتحمت هاجر أشرف، 24 عامًا، مولودة في محافظة المنيا، مجال النقاشة بعد أن تعلمته على يد والدها. كانت أسرة هاجر كالعديد من الأسر التي تعاني اقتصاديًا، ولا تجد مفر إلا تسريب الأطفال والطفلات من التعليم وإلحاقهن/هم بالعمالة من أجل قوت اليوم.

تركت هاجر دراستها في المرحلة الإعدادية. ورغم صعوبة المهنة، تعلمت النقاشة واحترفتها أسوةً بوالدها، ولمساعدته على أعباء الحياة. حيث اعتادت الذهاب معه للعمل كل صباح، لتتعلم منه أصول الحرفة وفنونها. لكن الانتقادات طالتها في الكثير من الأحيان لأنها فتاة.

تحكى هاجر لـ”شريكة ولكن”: “في البداية كنت أسمع تعليقات سخيفة، مثل معقول في بنت تعمل نقاشة؟ بتعرفي تشتغلي؟”. علاوة على مضايقات البعض لها خلال سيرها في الشارع، بسبب ملابس العمل كبنطال وتي شيرت وكاب، مثل: “ياواد يا بت”. وهي عبارة مقتبسة من فيلم مصري للتدليل على أن شخصًا ما غير معرّف/ة الهوية الاجتماعية.

تستطرد: “رغم ضجري من تلك التعليقات، استطعت بناء قاعدة جماهيرية بمرور الوقت. يطلبني الناس بالاسم بسبب مهاراتي، لأقوم بأعمال نقاشة خارج محافظة المنيا، كمحافظات القاهرة، و الإسكندرية، ومرسى مطروح. تحولت عبارات المضايقة والتنمر إلى عبارات تشجيع، ما كان يرفع من روحي المعنوية. الآن، يردد الجميع تقريبًا: ياريت تقدروا تعملوا زيها”.

أزمات وحوادث بسبب مهنة النقاشة

تعرضت هاجر لأزمات صحية عنيفة كادت تودي بحياتها. قبل 6 سنوات، كانت تستخدم الصاروخ الكهربائي، فتسبب بقطع 4 من أصابع يدها اليسرى. والصاروخ الكهربائي هو أداة تستخدم في تقطيع الحديد والأخشاب والمعادن.


ورغم أن مهنة النقاشة لا تستوجب استخدام الصاروخ الكهربائي، كانت هاجر دائمة الحرص على إتقان مهارات إضافية. وفي تعليقها عن هذا الحادث، تقول: “مهما حصل هفضل مكملة في شغلي”.

تضيف، “نسبة العجز تخطت الـ80%. خضعت للعلاج مدة 6 أشهر، وأجريت عدة جراحات في يدي. ورغم إعادة ترميم الأصابع المبتورة، إلا أن العجز كما هو”.

أما الحادث الثاني، فقد وقع قبل عامين بمحافظة المنيا. تقول: “سقطت من الدور الحادي عشر خلال عملي بتشطيب شرفة شقة. شاء القدر أن أقع على محاصيل زراعية، ما أنقذ حياتي”.

تسلّط مثل هذه الحوادث الضوء على ضرورة وجود نقابات عمّالية للعاملات/ين في مجال النقاشة في مصر. إذ أن أغلبهن/م لا يحصلن/ون على تأمينات صحية تغطي نفقات العلاج. ويصبح الاضطرار إلى الانقطاع عن العمل بسبب الإصابات عبئًا اقتصاديًا على الكثير منهن/م.

كما أن تغطية مصروفات العلاج على نفقتهن/م الشخصية، تعفي العميلات/العملاء من تغطية تلك النفقات بوصفها مسؤولية فردية للعامل/ة يتحملنها/يتحملونها من أجورهن/م الزهيدة.

بعد مرور 17 عامًا على عملها بمهنة النقاشة، ما زالت هاجر تعمل مع والدها. رغم احترافها المهنة، وأنها لم تعد بحاجةٍ إلى إرشاد والدها، تطمح أن يظلا شريكين ويكبر عملهما معًا.

لم تقتنع الطبيبة حينذاك إلا بعد أن شاهدت بنفسها.. هبة تقوم بأعمال النقاشة أفضل من عامل محترف.

الأسطى هبة.. من الصدفة إلى نقّاشة محترفة

قبل 12 عامًا تركت هبة عبد الرحمن، 45 عامًا مواليد محافظة القاهرة، مجال عملها كسكرتيرة في إحدى العيادات الطبية، واحترفت النقاشة. حدث ذلك بمحض الصدفة، بعد أن رغبت الطبيبة صاحبة العيادة التي تعمل بها عمل تشطيبات بشقتها.


لم تجد الطبيبة حينها شخصًا مناسبًا للعمل. فعرضت عليها هبة إجراء التشطيبات ودفع نفقة الخامات، على أن تقوم الطبيبة بسداد ثمن الخامات والمصنعية لها حال أعجبها العمل. لم تقتنع الطبيبة حينذاك إلا بعد أن شاهدت بنفسها.. هبة تقوم بأعمال النقاشة أفضل من عامل محترف.

سردت هبة قصتها في مقابلة خاصة مع “شريكة ولكن”. تقول: “بعد أن قمت بالتشطيبات للطبيبة، عجبها شغلي و عرضته على مهندس معرفتها. لم يقتنع المهندس أن تلك النقاشة هي عمل امرأة تدخل في هذا المجال لأول مرة. لكن أكدت له الطبيبة أن هذا عملي، لأنها كانت متواجدة طوال فترة العمل وشاهدت بنفسها. منذ تلك اللحظة، بدأ المهندس والطبيبة في تقديمي لزبائن جدد، حتى أصبحت معروفة في المجال“.

بحسب هبة، زبائنها هن/م الدعاية الحقيقة لها في مجالها الذي توسّعت فيه بمرور السنوات، إلى جانب دعم بناتها. فالأسطى هبة أم لثلاث شابات/فتيات. إحداهن تدرس صحافة وإعلام بالجامعة الأميركية في القاهرة بعد حصولها على منحة دراسية.

لم تفلت هبة هي الأخرى من إصابات المهنة التي لحقت بها بعد مشقة دامت 12 عامًا. حيث أصيبت بخلل في غضروف الرقبة والعمود الفقري. لذا، تستعين بعمالة لمساعدتها في إتمام مهام العمل في مجال النقاشة.

تحلم هبة أن تكبر في مهنتها، وتفتتح شركة خاصة بالتشطيبات يومًا ما.

 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد