
في الحرب كانت في الميدان… وفي السلم: “حجابها لا يشبه هوا لبنان”
استقالة زينب ياسين من "تلفزيون لبنان" بعد إقصاءٍ ممنهج ضد المحجبات
مع بدء العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كانت كاميرا “تلفزيون لبنان” حاضرة في الميدان على خطوط النار. وسط هذا المشهد، برزت الإعلامية زينب ياسين، التي تطوعت لتغطية الميدان رغم عملها في قسم الـCG (محرري شريط الأخبار والعواجل)، وظهرت لأول مرة على الهواء كمراسلة، لتثير حضورها تباينات بين من أشاد بمهنيتها، ومن اعترض على حجابها. ورغم أن تغطياتها اليومية استمرت نحو عشرة أشهر، اختفت فجأة عن الشاشة بحجة “عدم توافر الميزانية”.
هكذا، أثار حجاب زينب الجدل، فلم تمرّ إطلالتها دون تجاذبات تعكس منطق التمييز المتجذّر في الآليات التوظيفية والذهنية على حدٍّ سواء.
حيث اعترضت جهات داخل المؤسسة على ظهور مراسلة محجبة على الهواء، في ما بدا أنه تجاوز لمجرد الرأي التحريري إلى منطق فرز طائفي وتمييز مهني مبني على الشكل والمظهر لا الأداء والكفاءة. بل هو أيضًا تعارضٌ واضحٌ مع مبادئ الدستور اللبناني الذي يكفل حرية المعتقد والحرية الدينية، ومن المفترض أنه يقوم على مبدأ التعدد الطائفي.
زينب ياسين: “حجابي أزعج بعض الشركاء في الوطن”
نشرت الإعلامية زينب ياسين عبر فيسبوك عن استقالتها من “تلفزيون لبنان” بعد منعها من الظهور أمام الكاميرا بسبب ارتدائها الحجاب، ووصفت القرار بأنه تمييز ضد المحجبات.

في بيان استقالتها، اعتبرت زينب أن المؤسسة تمارس “وطنية مجتزأة” ولا تعامل الموظفين/ات بعدالة. وقالت إن “إزدواجية المعايير التي تمارسها المؤسسة، التي تتفاخر بمقابلت مع إعلاميات محجبات ناجحات، تدفعني لاحترام ذاتي وصحتي النفسية”.
وأضافت أنها تتقدم باستقالتها من “هذه المؤسسة الوطنية، التي تبين أنها وطنية وجتزأة، هي وطنية لمن لا يرتدين الحجاب فقط”.
أثارت القضية موجة غضب واسعة على مواقع التواصل. وعبّر/ت إعلاميون/ات وناشطون/ات عن تضامنهم/ن مع زينب، مطالبين/ات بموقفٍ واضحٍ من الجهات المعني. فيما لم يصدر أي بيان رسمي من المحطة حتى الآن.
فيما عادت زينب، لتؤكّد في تغريدة لاحقة أن هذه “المعركة ليست من أجل الضجيج، بل من أجل انتزاع حق”، مشيرةً إلى تلقيها إشارات إيجابية قد تتطور لاحقًا.
تمييز مركّب: طائفي، جندري، ومهني
في تفاصيل القضية، أكدت مصادر داخل “تلفزيون لبنان” أن زينب ياسين طلبت الانتقال رسميًّا إلى قسم المراسلين/ات، بحسب تقارير صحفية محلية. لكن مديرة الأخبار دينا طبارة رفضت، معتبرةً أن الأمر “يحتاج إلى قرار سياسي”، بسبب “الحجاب”. كلمات طبارة، وإن نُسبت إلى منطق “السياسة التحريرية”، تسلط الضوء على فجوة حقيقية في الحياد الإعلامي داخل المؤسسة العامة، وعلى خضوع هذه السياسة لمعايير طائفية غير معلنة.
المفارقة المؤسفة، أن نفس المديرة التي أثنت على أداء زينب، عرقلت تطورها المهني. والأسوأ، كان تصريح مستشارة وزير الإعلام بول مرقص، بولين اليموني، خلال اجتماع داخلي -بحسب صحيفة “الأخبار” اللبنانية- حين قالت إن “الحجاب ما بيشبه هوا تلفزيون لبنان”، ليقترح أحد/ إحدى المجتمعين/ات تقزيم زينب إلى تغطيات دينية حصرًا، وكأن مظهرها يمنعها من تغطية الشأن العام.
وكان الاقتراح خلال الاجتماع المغلق لإداريي/ات التلفزيون أن يتم “إرسال زينب لتغطية أنشطة دار الفتوى والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى”. وعلى الرغم من التمييز المركّب ضد المحجبات الذي يعكسه الاقتراح، لتضمنه على تحجيم وإقصاءٍ مهني، وتضييق على خياراتهن الشخصية والمهنية، إلا أن رد المستشارة كان: “ما في داعي، المراسلات الباقيات بحطو فولار عراسن بس يروحوا”.
بين “الحجاب” و”هوا الشاشة”: أي لبنان نريد؟
هذا النمط من التمييز لا يمكن فصله عن منطق التمييز الجندري المركّب، حيث يتقاطع النوع الاجتماعي (كونها امرأة) مع الهوية الدينية الظاهرة (ارتداء الحجاب) لتشكل أرضية خصبة للإقصاء والوصم. فزينب لم تُهمَّش لأنها غير كفؤة، بل لأن مظهرها الديني يخالف الصورة “المطلوبة” للمراسلة على شاشة يفترض أن تكون عامة، ولكل اللبنانيات/ين.
إنها صورة جديدة عن الرقابة غير المعلنة على أجساد النساء، وتحديدًا المحجبات، في الفضاء العام الإعلامي.
حين تتحوّل خيارات النساء الدينية إلى حجة للإقصاء المهني، تصبح المؤسسات العامة شريكة في انتهاك الحريات الدستورية، وتحديدًا حرية النساء في الوجود والتمثيل كما يردن، لا كم يُراد لهنّ.
وحين تُمنع إعلامية من التقدم المهني لأنّها ترتدي الحجاب، فهذا لا يعكس فقط خللًا مؤسساتيًّا فقط، بل فشلًا وطنيًّا في احتضان التنوع.
لبنان، الذي يُفترض أن يقوم على التعددية، يعيش حالة استنسابية في حرية المعتقد، حيث تُخترق القوانين وتُطوّع المعايير بحسب المزاج السياسي والطائفي والعرفي السائد.
زينب ياسين لم تكن الوحيدة. ندى الحوت سبق أن أُقصيت أيضًا لنفس السبب. والنتيجة: شاشة عامة تتحول إلى مرآة لفئة دون سواها، على حساب الكفاءة وحق الجميع في التمثيل العادل.
برسم وزارة الإعلام
ما يحدث من تمييز في “تلفزيون لبنان” لا يشبه لبنان الذي نطمح إليه.
فلبنان الذي “يتغنّى” بالتنوع يجب أن يحترمه ويمثّله فعليًّا، وقضية زينب ياسين وقبلها ندى الحوت هي جرس إنذار. فالتمييز ليس فقط مسألة فردية، بل انعكاس لبنية مؤسساتية تحتاج إلى إصلاح جذري وشامل.
ما لا يجب أن يشبه لبنان، الذي “يتغنّى بتنوعه الديني”، أن تصبح حرية المعتقد انتقائية واستنسابية.
ما لا يجب أن يشبه لبنان، أن تتم يتغلب المظهر على الكفاءة في المفاضلات المهنية.
ما لا يجب أن يشبه لبنان، تلك الخطابات التمييزية المسموح والمعمول بها في “تلفزيون لبنان” الرسمي.
فهل تتحرّك وزارة الإعلام لإعادة الاعتبار للمهنية؟ أم تواصل الصمت على حساب الحق؟