شرع قاتل: تسقط محاكمكم!
أكاد أجزم بأنَّه لم يغمض لي جفن ليلة أمس، أتقلّب مِنْ جنبٍ لآخر، أتفقّد وَلَدَّيْ، ألمسهما، أقبّلهما، وعند كل محاولة للنوم يُلاحقني صوتُ إمرأة، يؤرِّقني نَحِيبها، تصطادني صورتَها، ترعبني صرخَتَها، تغضبني، تحرقني، تُحرِّضني… هذه المرأة هي أمٌّ، وبإستخفاف مشين وعلى مرأى من الشرّع والدين والمجتمع والإنسانيَّة والقانون، وبِجَرَّةِ قلم من رجل دين، حُرِمَتْ من رؤية إبنتها لِسَنَتَيْنِ، حُرِمَتْ من ضمِّها، حُرِمَت من شمِّها، حُرِمَت من صباحاتِها، وضحكاتِها، ودمعاتِها، وتفاصيلِها… ولكنْ كلُّ ذلك لَمْ يُشبِعْ ظلم الذكورية القاتلة التي تَحكُمْ حياواتنِا وأقدارِنا كنساء، بَلْ أمعنت بجريمتِها حارِمَة تلك الأم من وداعِ أو زيارة إبنتِها حتى بعدَ وفاتها.
أمُّ الطفلةِ مايا اسماعيل، ابنة الـ15عاماً، تداول الناشطون/ات أنَّها مطلَّقة منذ مُدَّة وأنَّ هناك خلاف بينَها وبينَ طليقِها، وبعد وفاة ابنتِهِمِا بظروفٍ غامضة في شهر كانون الأول الماضي، إثْرَ اصابتِها بطلقٍ ناري، أراد الوالد أن يُمْعِن بحرق قلبِ الأمّ، من خلال حرمانِها من الوصول إلى قبرِها، فَعَمَد إلى دفنِ الجثمان في حديقةِ منزلِهِ المُسَيَّجَة.
الأمُّ ذهبت لزيارة قبرِ إبنتِها للمرّةِ الأولى بالأمس، مِنْ خلفِ السياج المشيّد لمنعِ الأمّ عن ابنتِها وفلذةِ كبدِها… بالأمس مايا سَمِعت صوتَ أمِها أخيراً، وبعد ٦٢ يوم من الإنتظار تحتَ التراب وَصَلَتهْا صرخَتها ووجَعَها وكلماتِها، في مَشْهد وثّقه فيديو إختارت أخت الأم أن تنشرَهُ على وسائل التواصل الإجتماعي، علَّه يُزعزع الفساد الذي يَسكنُ العمامات.
الفيديو هذا كان لِيَكونَ كفيلاً بهزِّ عروشِ الطوائفِ وتهديمِ جدرانِ المحاكمِ على رأسِ كُلِّ ظالمٍ مُتَجَبِّر. ولكنْ لبعضِ الضمائر الغافلة رأيٌ آخرٌ، إذْ وبَعْدَ مشاركتي في نشرِ الفيديو، وردتني تعليقاتٌ من البعضِ الذي لَمْ تُحَرِّك فيهِ صرخة الأمِ ذرَّةَ إستنكارٍ، بَلْ إستفزتْهُ عبارةً أورَدْتُها في تعليقي تقول “يلعن شرعكم”.
إذاً مشهد عذابات الأمهات لم يَنْفك يُعْتَبَرُ إعتيادياً ومقبولاً للبعض، ولكنَّ الكارثة كُلُّ الكارثة تقع عند المسِّ بالشريعةِ والدينِ المفصّل على قياسات أنظمة تعمل على التحكّم بأقدار النساء… هذه الشريعةُ التي حلَّلَت قهرَ أمومتِنَا، ذبحَ كرامتِنَا، إهدارَ حقوقِنَا، إستباحةَ أجسادِنا وحريتِنَا، هذه الشريعةُ التي دَفَنَتْ إنسانيتَنا وأمعنت في إذلالِنا وتهميشِنا وتعنيفِنا والتمييزِ ضدَنا نحن النساء، فقط لأنَّنَا نساء في مجتمع أبوي بطريركي تَحكِمُهُ طغمة فاسدة من الرجال الذين يَحمِلونَ عصا الدين لِيَحكموننا ويأدبوننا مَعْ كُلِّ صيحةِ ديك.
حسناً، لِكُلِّ الذين استفزَّهم تعليقي، والذين أيضاً يستفزُّهم دِفاعي الدائم عن حقوقِ النساء، والذين يستخفُّون بقضايانا كنِساء… لِكُلِّ هؤلاء أقول، لَنْ نخجلَ بعدَ اليوم بتسميةِ الأشياءِ بمسمياتِها، و لَنْ نسمحَ بتضييع ِالبوصلة عن مكمنِ العنفِ والتمييزِ الحقيقيّ، وسنقولُها وبالفمِّ الملآن “إيه يَسقُط شرعكم”، تسقط فتاواكم، تسقط محاكمكم، يسقط بطشكم، تسقط سلطتكم، يسقط قهركم… وتحيا الأمهات، تحيا النساء، تحيا الفتيات، وسيحييّنَ جميعاً في مستقبلٍ لا قوانينَ أحوال شخصية طائفية فيه، ولا ظلم ولا تمييز ولا سطوة أبويّة ولا عنفٍ ذكوري… فقد قلناها يوماً وسنبقى نُكرِّرُها “إحذروا غضب النساء”.