المحطات اللبنانية تقصي النساء عن الحوارات وتهمش قضاياهن

تكاد تغيب قضايا النساء عن المحطات اللبنانية في الوقت الذي يشهد فيه لبنان أشدّ انهيارٍ مالي في تاريخه الحديث.

يخال للمشاهد أن لا معاناة تذكر وأن النساء بألف خير. بينما يَفرض عليهن الانهيار تحدياتٍ ومخاطر كبيرة. ويضاعف معاناة أكثرهن تهميشاً، ويزيد من حدة العنف الممارس ضدهن.

الخطر في تهميش وسائل الإعلام لهذه القضايا، أو إساءة طرحها، أنها تستجلب مزيداً من العنف ضد النساء.

ويظهر رصد أجرته منصة “شريكة ولكن” لعددٍ من البرامج الحوارية والنشرات الإخبارية، خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، التمييز الكبير الذي تمارسه المحطات اللبنانية ضد النساء.

إذ تُبيّن المتابعة تغييب قضايا النساء عن النشرات الإخبارية وإقصاءهن عن المشاركة في الحوارات الجدية، فتتدنى نسب مشاركتهن.

بعض المحطات اللبنانية، وإن طرحت قضايا نسوية بشكلٍ موسمي مفتعل، عبر برامج محددة ممولة من خارجها، إلا أن المشهد الأشمل يظهر استمرارها في نهجها الإقصائي بحق النساء.

“لا تُؤخذ النساء على محمل الجد في القضايا التي تعتبر تقليدياً من اختصاص الرجال، كالسياسة والاقتصاد وغيرها”، وفق تصريح مديرة التواصل في برنامج “النساء في الأخبار” في المنظمة العالمية للصحف (وان-ايفرا)، ميرا عبدالله لـ”شريكة ولكن”.

اللافت أن النساء اللواتي يقصين من النقاشات الجدية في مجالات مثل السياسة والاقتصاد وغيرها تصبح محور أبرز البرامج المصنفة “اجتماعية”.

لكن للأسف، لا يدور النقاش في هذه البرامج حول قضايا النساء كقضايا، ولا يتم التعامل معها بوعي، بل تتم شخصنتها.

يتعامل المحاور مع ضيفاته وكأن معاناتهن شأن فردي منفصل عن سياقٍ عام يحض على تهميش النساء وتعنيفهن.

فتتحول قضية العنف مثلاً إلى نميمة فضائحية لا تلحظ واقع المرأة في المجتمع، وعلاقات القوة التي تُنتج العنف الموجّه ضدها.

وخلال هذه الحوارات، يظهر حرص المحاورين على إبقاء النقاش على مستوى الأفراد، فلا يمسّ النظام الأبوي والبنية البطريركية في المجتمع.

هكذا يبرّأ المسؤولون، من مشرعين وقضاة وأجهزة إنفاذ القانون وحتى المعنّفين، من مسؤولياتهم عن حلقة العنف.

ويبقى النقاش سطحياً، يتجنب البحث في أسباب المشكلة. بل يتحول إلى نقاش ميزوجيني يتبارى فيه الضيوف في الإساءة إلى النساء.

استبعاد النساء من الحوارات على المحطات اللبنانية

 

خلال 3 أشهر من الرصد، ظهرت برامج جديدة تدّعي تبنّي قضايا النساء.

بيّنت محطة الـ”أل بي سي”، عدم اكتراثها فعلياً بقضايا النساء أو آرائهن وعدم تبنيها في سياساتها العامة لأي من القضايا النسوية.

فبرز برنامج “50/50” الذي يقدمه الإعلامي سامي كليب. وتعرّض لانتقاداتٍ عند إطلاقه بسبب اختيار رجلٍ لتقديمه، بينما يتحدث “عنهنّ ولهنّ”. وكأن النساء غير قادرات على الحديث عن قضاياهن.

السيئ في اختيار رجلٍ لتقديم البرنامج هو أنه يوحي بأن الذكر حريص على مصالح النساء أكثر من مذيعاتٍ أخريات يتبنين مقارباتٍ ذكورية. وحتى إن كان المقدم واعٍ لقضايا النساء، كان حرياً بالجمعية المنتجة للبرنامج اختيار امرأة لتقديمه.

واستقبل برنامج “نهاركم سعيد” 194 رجلاً مقابل 26 امرأة. أي أن القناة، في برنامجها الحواري الصباحي، لم تفتح المجال للنساء ليناقشن في السياسة وقضايا المجتمع سوى بنسبة تقارب الـ12% فقط!

كما استضاف برنامج “عشرين 30″، 35 رجلاً مقابل 6 نساء، من دون طرح قضايا نسوية. وكأن رؤية البرنامج للبنان 2030 لا تكترث للنساء.

كذلك لا ينقل برنامج “صوت الناس” صوت كل الناس فعلاً، إذ استقبل 50 ضيفاً مقابل 4 ضيفات فقط، أي ما تقل نسبته عن 8%.

تتشابه الحال على شاشة الـ”أم تي في”. ففي تعداد لضيوف برنامج “صار الوقت” الأساسيين، استضاف أكثر من 70 رجلاً مقابل نحو 7 نساء، أي أن نسبة مشاركتهن أقل من 10%.

تعكس هذه النسبة إقصاء النساء عن مراكز القرار. فجزء كبير من الضيوف هم من أصحاب القرار وممثلين عن قطاعات مهنية مختلفة.

مثلاً استقبل البرنامج 4 مرشحين للانتخابات اللبنانية المقبلة للحديث عن ائتلاف “شمالنا” في حلقة غابت عنها مرشحات الائتلاف.

وفي حلقة طرحت قضايا التعليم، اختير جميع الضيوف من الرجال، بعضهم من ممثلي الأساتذة وإدارات المدارس، في حين تشكل النساء نسبةً كبيرةً من العاملين في القطاع.

أما على شاشة المنار المعروفة بضوابطها “الشرعية” وموقفها الواضح من قضايا النساء، فاستضاف برنامج “مع الحدث” الحواري الصباحي 4 سيدات فقط مقابل 134 رجلاً، أي ما تقارب نسبته الـ 3%.

تكشف هذه النسب كيف يشكل الإعلام التقليدي عائقاً أمام تقدم النساء في الشأن العام.

فهو يهمّش حضورهن في الفضاءات العامة، ويبعدهن عن النقاشات والحوارات مهما كنّ ضليعات فيها.

بارقة أمل في البرامج الحوارية قدمتها الزميلة صبحية نجار عبر برنامجها “مصلحة عامة”، وهو فكرة وإنتاج برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

بسلاسة حاورت نجار ضيفاتها الست، على مدى 3 حلقات، بمواضيع مختلفة تعني المواطنين/ات، فأظهرت كفاءات النساء التي تطمسها البرامج الحوارية.

وفي مقابلتها مع “شيكة ولكن”، لفتت ميرا عبدالله إلى “خطورة عدم إعطاء مساحات للنساء، لأن ذلك يؤثر على الجمهور وتحديداً النساء أنفسهن، فيشعرن بأن أصواتهن غير ممثلة ويخسرن الدافع لينشطن في الشأن العام. وحين لا يتم إبراز أصوات النساء، يخسرن الدعم”.

وأعطت عبدالله مثالاً عن موضوع الانتخابات، فقالت: “حين يُفتح المجال للمرشحين أكثر من المرشحات، فمن الطبيعي أن يكسب الرجال تأييداً أكبر، لأن النساء لم يحظين بفرصة لإيصال أصواتهن وبرامجهن الانتخابية وإقناع الرأي العام بها وبأهمية ترشيحهن ووجودهن في مراكز صنع القرار”.

كما أشارت إلى دراسة أجراها برنامج “النساء في الأخبار”، أظهرت أن صوتاً واحداً من كل 5 أصوات في الإعلام في المنطقة هو للنساء.

وشملت الدراسة النساء كمصادر للأخبار وككاتبات أو حتى موضوع خبر أو صور. وهو ما يؤكد أن المرأة غير ممثلة تمثيلاً كافياً.

“البرامج الاجتماعية” جلد للنساء

تعرض أشهر البرامج الاجتماعية على “الجديد” والـ”أل بي سي”. إلا أنها للأسف تتعاطى بشكلٍ كارثي وبأسلوبٍ رخيص مع قضايا النساء، فتصبح الجرائم وجهة نظر وموضوعاً قابلاً للنقاش.

تتجاهل مقدمة “فوق الـ18” رابعة الزيات، البنية الأبوية للنظام القائم وانحياز القوانين والأعراف للرجل. فتقرر هي أيضاً الانحياز لصالحه عبر أسلوبها في طرح قضايا تعنيف النساء، ومحاولة إظهار أن مقابل رجلٍ معنف هناك سيدة معنفة. وكأن الأمر سيان!

مثلها يفعل مقدم برنامج “أحمر بالخط العريض” على الـ”أل بي سي” مالك مكتبي. إضافة إلى قضايا العنف، يتطرق المذيع اللبناني إلى المسائل الاقتصادية.

فيصبح الرجل في نظره “ضحية متطلبات المرأة اللبنانية التي تدفعه إلى تفضيل المرأة الأجنبية”.

يغيب عن بال مكتبي تأثير الأزمة الاقتصادية على النساء وحجم الاستغلال الذي تعرّضهن له. كما يغيب عنه طرد النساء من العمل والتمييز بالأجور ومعاناتهن في المحاكم الدينية.

تدفع هذه المقاربات إلى التشكيك بنوايا مقدمي/ات البرامج نتيجة تدني مستوى النقاش.

من جهتها، رأت ميرا أن “المحطات اللبنانية تعتمد الإثارة في كل المواضيع الجندرية، خصوصاً قضايا الأقليات الجندرية، إما لتحقيق نسب مشاهدة مرتفعة أو نتيجة قلة وعيها بقضايا النساء وحقوقهن”.

ووصفت ما يُعرض بأنه “إعادة تدوير لما يحصل في المجتمع من لوم الضحية/الناجية بجرائم العنف ضد النساء”.

وأضافت أن “حصر تمثيل النساء في الإعلام بالقضايا الاجتماعية والعائلية والموضة، ناتج أيضاً عن قلة وعي لاهتمامات واحتياجات النساء في المجتمع”.

وذكّرت بـ”اختلاف اهتمامات النساء، فمنهن من لا تهمهن الموضة، وكثيرات يفضلن الاقتصاد والسياسة، لكن يجري تهميشهن من قبل الإعلام التقليدي. وهذا التهميش مضر بمصلحة المؤسسات الإعلامية لأنه يفقدها قسماً من الجمهور”.

النساء في نشرات الأخبار ضحايا لا قضايا

تعكس نشرات الأخبار واقع المجتمع، وعبرها أيضاً تكاد تغيب أخبار النساء.

على العكس من الكثير من القضايا، نادراً ما تعدّ تقارير تسلط الضوء على قضية نسوية من دون ارتباطها بحدثٍ أو بجريمة.

في نشرات قناة “الجديد” مثلاً تكاد تنسى قضايا النساء، إلا في حال حصول جريمة قتل لامرأة نافرة ومستفزة ومروعة، كجريمة أنصار التي راحت ضحيتها 4 نساء، والدة وبناتها الثلاث.

بينما تنسى جرائم أخرى، كقتل الدكتورة ليليان علوه وغيرها. وبالتالي، لا تتم مواكبة التحقيقات والضغط لإحقاق العدالة للنساء في حال لم تدفع الجمعيات باتجاه ذلك.

وهو ما يؤثر سلباً على مسار العدالة. فعادةً يتم التساهل مع المجرمين في القضايا التي لا تحظى بمتابعة إعلامية. وتزيد الأحداث الكبرى كاندلاع الحرب في أوكرانيا أو وقوع إشكالات داخلية من تهميش قضايا النساء.

تهمّش محطة “أم تي في” أخبار النساء وقضاياهن أيضاً. بل تعالج بعض القضايا بانحياز ضد الضحايا/الناجيات.

وهو ما حصل خلال تقرير عن شبكة اتجار بالنساء في طرابلس. إذ لم يلحظ التقرير ظروف النساء المهمشات بل جرّم ضحايا الاتجار بالبشر، وطالب بمعاقبتهن بدل تحميل المسؤولية لمن يقومون باستغلالهن من شبكاتٍ وزبائن، في خطاب يزيد من لوم وتذنيب الضحايا/الناجيات ونبذهن.

مثلهما فعلت الـ”أل بي سي”، على الرغم من أنها غطت عدداً من أخبار النساء، لكنها أساءت التعاطي مع بعض المسائل.

وأبرز مثالٍ على ذلك تقرير المحطة عن تزويج قاصر من دون موافقة ذويها. بدأ التقرير باعتبار ارتداء الفستان الأبيض “حلم الفتيات منذ الصغر”، ما يتعارض مع الهدف المفترض للتقرير، والذي يجب أن يكون رفض تزويج الطفلات!

لذلك، تُبرز تغطية النشرات الإخبارية أهمية تنظيم التحركات والحملات النسوية في فرض هذه القضايا على أجندة المحطات.

وقالت ميرا عبدالله إن “المشكلة تكمن في عدم اعتبار قضايا النساء وحقوقهن وتمثيلهن في الشأن العام أولويةً في الأزمات الاقتصادية وغيرها. لهذا السبب الأساسي نرى أن تمثيل النساء في الإعلام محصور بحصول حدث آني يضع القضية كأولوية”.

وأكدت أن “هذا خطأ كبير، فلا يمكن عزل قضايا النساء عن القضايا الأخرى. ولا يمكن القول إن حقوق النساء ليست أولوية. كل الحقوق أولوية خصوصاً الجندرية، لأن المهمشات/ين اجتماعياً هن/م الأكثر تضرراً من الأزمات السياسية والاقتصادية والحروب”.

طغيان الخطاب الذكوري خوفاً من زعزعة المنظومة

في الرابع من نيسان/أبريل الجاري، نشرت مؤسسة مهارات نتائج رصد أجرته عن شهر آذار.

يؤكد رصد المؤسسة استمرار طغيان الخطاب الذكوري في غالبية المحطات وتهميش النساء. فحظيت النساء بنسبة 11% من التغطيات الإعلامية مقابل 89% للرجال.

وسجل التقرير تحسناً في نسبة حضور المرأة بشكلٍ طفيف. إذ بلغت في شباط 7%.

لكنه أشار إلى أن حضورها في نشرات الأخبار ما زال منخفضاً جداً، تماماً كما في شهر شباط/فبراير، ولم يتعدّ 5%.

من جهتها، اعتبرت عبدالله أن “التمييز ضد النساء، وإن كان في غالبيته غير مقصود، لكنه متعمّد في بعض الأحيان. لأن هناك أشخاصاً يريدون حماية منظومة معينة. وعندما تخرق النساء سقفها الزجاجي تتزعزع هذه المنظومة”.

يبيّن إذاً تهميش النساء في الإعلام كيف تُوضع العوائق في درب تقدمهن، وكيف يتمّ التعتيم على إنجازاتهن ووجودهن في العديد من المواقع المتقدمة، ما يؤدي إلى إبعادهن عن مراكز القرار.

من هنا، تدعو هذه الوقائع والأرقام وسائل الإعلام والإعلاميين والإعلاميات إلى إعادة النظر بأدائهن/م الإعلامي المرتبط بقضايا النساء.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد