الصيد في الماء العكر: أو كيف يتم نصب الفخاخ للنسويات في الدول العربية؟
يُقصد بمُصطلح الصيد في الماء العَكِر كل فعل الغرض منه الإيقاع بشخص أو كيان، باستخدام المغالطات أو المعلومات الخاطئة أو باستغلال فرصة لتحقيق هذا الغرض.
فلنتخيل الماء هو عالمنا العربي، و”الصيد” هو النسويات سواء كن ناشطات أو منظمات غير ربحية. أما عن الصيادين، فهم الأشخاص الذين ينتهزون كل الفرص لشيطنة النسويات، وفي كل مرةٍ يتعكّر فيها الماء، يقفزون إلى المشهد محاولين بكل الطرق تشويههن واتهامهن بالتغريب أو العمالة للخارج أو السعي إلى هدم الأسرة.
لكن الماء- وأعني به المناخ السياسي والاجتماعي- دائماً عَكِر، والصيادون متأهبون، ما يجعل من النشاط النسوي في منطقتنا العربية في حد ذاته ممارسةً صعبة على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
لم يكُن لهذا النشاط أبداً شعبيةً وجماهيريةً حتى وإن تمت التعبئة حوله بمهارة، فمجتمعاتنا وحكوماتنا معلولةً بالأبوية وتطفح ذكوريتها من كل جانب. وعلى الرغم من ذلك، يتم التعامل معه على أن تأثيره يشبه تأثير السلطات الرسمية أو الحكومات. فتارة تُطالب النسويات بالحديث عن أمرٍ ما، أو يتم وصمهن لعدم الحديث عن أمرٍ آخر. وفي بعض الأحيان، يُتهم خطابهن ونشاطهن بالسطحية أو التغريب، إضافة إلى هجماتٍ لا تتوقف من أشخاصٍ غير معنيين بقضايا النساء قدر عنايتهم بنصب الفخاخ للنسويات باستخدام تلك القضايا.
الصيادون والذباب الإلكتروني والقوى المحافظة والقوى الدينية، وكل من وقف يوماً في وجه النسويات من الحكومات والجماعات والأفراد يلقون الاتهامات ويختارون الأولويات ويعرقلون مشاريع القوانين ويحتجزون المدافعات عن النساء أو يتم منعهن من السفر. يتعللون بالحفاظ على الأسرة والدين والهوية وأولويات النضال. يستخدمون خطاباتٍ من شأنها تسفيه النسويات ومطالبتهن بتغيير الكون: لماذا تتحدثن عن الحجاب ولا تتحدثن عن النساء المعيلات؟ لماذا تتحدثن عن العنف الأسري وتنسين جرائم جيش الاحتلال؟ لماذا تتحدثن عن الضحايا/الناجيات من العنف الجنسي ولا تتحدثن عن الضحايا/الناجين الرجال من العنف الجنسي؟
صدقن أو لا تُصدقن، هؤلاء لا يهتمون لا بالنساء المعيلات ولا بجرائم جيش الاحتلال، ولا بالناجين الرجال من ضحايا العنف الجنسي. هؤلاء لا يملكون حتى الجرأة لمعاداة النسويات بشكلٍ صريح.
يُغلفون كراهيتهم للنسوية بغلاف خوفهم على النساء الفقيرات المُعيلات وكأن خطاب النسويات يُغفلهن. يكسون كراهيتهم لنا بخوفهم على الفتيات المراهقات من خطابنا؛ لأنهم يُريدونهن غافلاتٍ جاهلات بحقوقهن الجسدية والجنسية.
يفرضون أولويات النضال على النسويات لأنهم لا يتخيلون النساء قادرات على صياغة خطابات سياسية نسوية من دون أن يكونوا هم المرجع كرجال. هؤلاء تؤرقهم –جداً- أصوات النسويات العالية. فأينما وجدن وأياً كان نشاطهن وخطابهن، ستجدن/ون ملاحقاتٍ واتهاماتٍ وتسفيهٍ وتحقير، لأنهن أولاً نساء، وثانياً صاحبات أصواتٍ عالية لا يخضعن للفصل الأبوي بين الفضاءين العام والخاص.
النسويات يخُضن معارك نسوية سياسية مع الحكومات من جانب، ومعارك أخرى على الوجود مع كارهي الحركة النسوية والمستفيدين من النظام الأبوي من جانبٍ آخر.
بين الحكومات والمجموعات والأفراد: استهداف النسويات مستمر
في 14 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وقعت اشتباكات في لبنان أطلق عليها اسم “أحداث الطيونة” راحت على إثرهها اللبنانية مريم فرحات ضحيةً لاقتتالٍ لم تُشارك به. مقتل مريم هو الضوء الذي تم تسليطه على المدنيات/المدنيين اللاتي/الذين دفعن/وا أثمان الفساد والعنف في البلاد. وتلك في حد ذاتها قضية نسوية.
فالحديث عن فساد السلطة وتأثيره على المواطنات/ين قضية نسوية، وعندما وُجهت أصابع الاتهام ضد النسويات والمنظمات النسوية في لبنان على “أنهن تعامين عن مقتلها بسبب انتمائها الطائفي وحجابها” كان ذلك كاشفاً لعدة أمور. أهمها كان استهداف الناشطات والمنظمات النسوية واتهامهن بالتحيز بزعم أن مريم “شيعية مُحجبة”. لم يُجب هؤلاء عن سؤالٍ هام قبل أن يقذفوا الاتهامات: هل تم استهداف مريم بالقتل لأنها شيعية محجبة؟ هل راحت مريم ضحية عنف قائم على النوع الاجتماعي؟ هل تم استهدافها لأنها سيدة؟ ورغم وضوح الإجابة، إلا أنهم اختاروا استهداف النسويات إلكترونياً بالسُباب والاتهام بالعمالة والتغريب والتحيز الطائفي.
تلك الواقعة ليست جديدة. فالعديد من المنظمات النسوية والناشطات يتم استهدافهن باستمرار. وكما حدث في لبنان مؤخراً، حدث في مصر والسعودية وفلسطين والأردن والمغرب وتونس.
لدينا واقع حافل بالأمثلة، وإن تحدثنا عن استهداف الحكومات والسلطات للنسويات فلن نجد مثالاً أوضح من المملكة العربية السعودية، حين اعتقلت النسويات واستغلت خطابهن لرفض الولاية والحق في القيادة، لتبني صورةً حداثيةً عن المملكة، بينما كانت النسويات اللواتي بدأن الحديث عن سوء أوضاع السعوديات مُنتهكات في السجون.
هناك تربُص دائم على الإنترنت بالشابات السعوديات اللاتي يستغثن من العنف الأسري أو الحجز القسري في دور الرعاية. فيقوم المتربصون بإبلاغ السلطات أو العائلة المُعنّفة وبعدها تختفي الشابة إن لم تنجح في الهروب خارج البلاد.
وفي مصر، جمدت السلطات أرصدة وحسابات بنكيّة لمدافعات عن حقوق النساء ومنظمات نسوية وأدمجت أسمائهن في قضية معروفة إعلامياً باسم قضية التمويل الأجنبي، إلى جانب منعٍ من السفر استمر لمدة 5 سنوات.
أما عن أمثلة تعاون السلطة المصرية مع المتربصين بالنساء على الإنترنت، فيُذكر أن القبض على الشابات اللواتي استخدمن تطبيق تيك توك عام 2020 أتى على خلفية استنكار الغالبية المحافظة على مواقع التواصل أن هؤلاء الشابات “لا يلتزمن بالكود الأخلاقي والحدود الطبقية المفروضة على النساء”.
أما أكثر الاستهدافات عبثاً فهي مجموعات تُنشأ خصيصاً لاستهداف النسويات على الإنترنت، وما نعرفه في مصر باسم “جيوش الهاهاها”. وهم رجال يستهدفون حسابات النسويات المصريات على فيسبوك باستخدام خاصية (أضحكني) على منشورات تتضمن عنفاً ضد النساء أو يُعيدون نشر منشوراتهن ومقاطع الفيديو بهدف السخرية.
بينما في فلسطين، يأخذ الاستهداف شكلاً تنظيمياً. فهناك مجموعة يزيد أعضاؤها عن 20 ألف، مُخصصة للتشهير بالأفراد والمنظمات النسوية والمجموعات الكويرية في البلاد. تُعرف المجموعة باسم “الحراك الجماهيري لإسقاط سيداو” ويرفض القائمون عليها اتفاقية “القضاء على كافة أشكال العنف ضد المرأة- سيداو”. كما يعتبرونها تهديداً للأسرة الفلسطينية والقيم التي يؤسس عليها المجتمع الفلسطيني. الهزلي في الأمر هو أن المجموعة لا تعتبر نضال النسويات الفلسطينيات ضد العنف الأسري عمالة أجنبية فحسب، بل يرفضون رفع سن الزواج ويدعمون تزويج القاصرات أيضاً.
وفي مطلع العام الجاري في الأردن، نشرت ليان –شابة أردنية- مقطعاً مصوراً تروي فيه كيف تتعرض للعنف الأسري والتحرش الجنسي من أشقائها، ما أثار ضجةً واسعة حول ملف العنف الأسري في الأردن وعدم وجود قوانين تحمي النساء الأردنيات. فقامت “تقاطعات”، وهي مجموعة نسوية أردنية بالتضامن مع ليان، إلا أن المجموعة تم استهدافها إلكترونياً بسبب هذا التضامن، واتُهمت بالسعي لهدم الأسرة الأردنية. تضمن الاستهداف مُطالبات للقائمات على المجموعة بوقف الحديث عن ليان وعن العنف الأسري في الأردن كلياً.
أما في المغرب، فتم اقتراح تعديل لقانون تجريم الإجهاض عام 2015، إلا أن القوى المحافظة والإسلامية احتجت ورفضت تمرير مشروع القانون. واستهدفت السلطات المغربية النساء اللاتي يُعتقد أنهن خرجهن عن المعايير الاجتماعية، فاعتقلت الصحافية المغربية هاجر الريسوني على إثر إجرائها عملية إجهاض عام 2019.
أطلقت النسويات المغربيات حملة بعنوان: “خارجة على القانون” للتضامن مع هاجر والمطالبة بتقنين الإجهاض. لكن بعد إطلاق الحملة بعدة أشهر، تعرّضت إحدى مؤسساتها –كريمة نادر- للاستهداف الشخصي بالتنمر والتشهير من مجموعات “الترولز”- أو المتنمرين الرقميين.
وعلى الرغم من الحراك النسوي في تونس الذي حقق مكاسب لم تحققها أي دولةٍ عربية حتى اليوم، هناك انتقادات للنسويات واتهامات بالـ”طبقية والانسحاق” في أجهزة الدولة التي تستخدم القضايا النسوية لتحقيق مكاسب سياسية كالانتخابات والحصول على الدعم الدولي.
وعن هذا الأمر، قالت الناشطة النسوية التونسية فريال شرف الدين في مقابلةٍ مع موقع “شريكة ولكن”، إن “الدولة بالفعل تستغل قضايا النساء لتحقيق مكاسب سياسية، إلا أن ذلك لا يعني رفض تلك المكاسب بشكلٍ كامل، إنما الاستفادة منها والعمل على توسيع بؤرتها لتشمل قطاعات أكبر من النساء التونسيات بمختلف طبقاتهن الاجتماعية وخلفياتهن الدينية ومستوى التعليم والوضع الوظيفي”.
ففي رأيها، “يمتد استغلال قضايا النساء للأحزاب والأفراد الإسلاميين أيضاً”. فريال نفسها تعرضت لحملة تشويهٍ بسبب نشاطها النسوي، وتم استهدافها من الترولز على مدى 3 سنواتٍ كاملة بالتنمر والتشهير وتشويه السمعة، والاتهام بالتغريب والعمالة الأجنبية.
لسنا جهات رسمية حكومية
سواء كانت القائمات بالنشاط النسوي منخرطات في منظمات أم مُستقلات، فإنهن يُمارسن النشاط المدني العام. والاسم ليس من قبيل الصدفة، لأن من حق كل شخص مدني ممارسة النشاط العام لنقد السلطة أو حثها على تبني سياساتٍ بعينها. فالكيان الوحيد الذي يتم مطالبته هو الجهة الرسمية التي تُصدر السياسات وتقوم على تنفيذها. ونحن نشهد حراكاً نسوياً قاعدياً في عدة بلدان عربية في السنوات الأخيرة؛ تضمّن مطالبات بتغيير قوانين أو تسليط أضواء على العنف ضد النساء. ولطالما كانت المُطالبات النسوية موجهة إلى الحكومات وأشخاص في مواقع صنع القرارات.
فالناشطات النسويات والمنظمات النسوية يعرفن كيف تُمارس الناشطية العامة. عكس الصيادين الذين يتوجهون بمطالبات للنسويات أنفسهن، وكأنهن في مواقع رسمية تسمح لهن بتغيير سياساتٍ أو سن قوانين أو منع العنف.
لو كانت النسويات في مواقع تسمح بذلك، لما كان هذا حال النساء في البلدان العربية. السؤال الآن، لماذا لا يجب مُطالبة النسويات بالحديث عن كذا أو بعدم الحديث عن كذا؟ إجابتنا هي أن لكل نسوية، منظمة أو ناشطة، أولوياتها الخاصة ويحق لها أن تختار خطابها بنفسها. فهي ليست رئيسة دولة تتوجه لها بمطالبك أو تنتقدها لأنها تتحدث عن “س” ولا تتحدث عن “ص” والعكس. كما أن اختيارها أن تكون ناشطة لا يُلزمها أن تتبنى خطاباً معيناً أو تتحدث عن قضيةٍ غير التي تختارها لنفسها. والعديد من المنظمات والحركات النسوية لهن مواقع إلكترونية وحسابات على مواقع التواصل مُعلن عليها أهدافها ورؤيتها.
إذن، ما يُمكنك فعله إن ارتأيت أن هناك شيئاً هاماً لا تتحدث عنه النسويات، هو أن تتحدث/ي عنه بنفسك. فممارسة النشاط العام في العالم العربي ليست سهلة، خصوصاً في البلدان التي تمارس تضييقاً أمنياً على الفاعلين والفاعلات في المجال السياسي العام. فمِن غير العادل أن تُطالب/ين غيرك بممارسة خطرة لأنهن نسويات.
كتابة: غدير أحمد