عدالة النساء الضائعة .. مسار الأحكام القضائية من التباطؤ إلى الاعتكاف
“نريد تحقيق العدالة في أسرع وقتٍ ممكن، ولن يشفي غليلنا سوى حكم الإعدام”.
هكذا يختصر ذوي/ذوات ضحايا جريمة أنصار، التي هزت جنوب لبنان في آذار/مارس 2022، حجم المصيبة التي أبادت عائلةً بأكملها.
جريمة أودت بحياة كل من باسمة عباس، وبناتها ريما وتالا ومنال صفاوي.
لكنها رغم ذلك لم تنهِ حياتهن فقط، بل أطاحت بأمن أهالي المنطقة، وأفقدتهم/ن الثقة بالنظام الأمني والقضائي.
عن خشية أهالي ضحايا جريمة أنصار من التهاون بأرواح النساء
“نريد حكماً قضائياً بحجم الفاجعة”
طرق أهالي الضحايا المفجوعين/ات باب قصر العدل في بيروت، ليطالبوا/ن بـ”حكمٍ قضائي بحجم فظاعة الجريمة“.
فهن/م يخشين/ون من أن يخفف القضاء من وقعها، ويستنبط حكماً لا يكون بحجم الجريمة.
أصابهن/م القلق من “التهاون في القضية كما حصل في جرائم أخرى بحق النساء ومن المماطلة التي تساهم في خلق تبريراتٍ تؤثر على الحكم القضائي، وتساعد على خلق أحكامٍ تخفيفية”.
لذلك شددوا على طلبهن/م الملح بـ” الإسراع في الإجراءات القضائية واستعجال الحكم، وتحلي القضاة بالجدية والمسؤولية تجاه أرواح الضحايا وعائلاتهن”.
هذا ما عبّر عنه أهالي الضحايا الغاضبات/ين لمنصتنا، في وقفتهن/م في حزيران/يونيو 2022 أمام قصر العدل، بعد أكثر من 4 أشهر على الجريمة.
ففي ظل محاولة ترويج البعض لمزاعم “معاناة المجرم حسين فياض من اضطرابات نفسية“، و”الأحكام المجتمعية التي رافقت القضية، بسبب وجود ارتباط عاطفي بين أحد المجرمين وإحدى الضحايا”، تتصاعد المخاوف من “منح فياض أسباباً تخفيفية، أسوةً بمجرمين آخرين”.
دم الأهالي يفور .. والجلسة أُرجئت بحجة “عدم سوق الموقوفين”!
حمّل أهالي الضحايا القضاء أمانة الحق والعدل، الذي دُفن في مغارة الجريمة، لأرواح باسمة وريما وتالا ومنال، بعد الإهمال والتكاسل الأمني الذي تبع اختفائهن.
لكن هذه الأمانة اصطدمت بحائط الاعتكاف القضائي، الذي لم يستثن دم النساء وأرواحهن تارةً، وبالإهمال والتقاعس تارةً أخرى.
فـ”الجدية” و”المسؤولية” التي طالبوا/ن بها، أجاب عليها القضاء قي جلسة 12 كانون الأول/ديسمبر 2022 أمام محكمة جنايات بيروت، بالتأجيل.
فسُرِّب إلى سمع ذوات/ي الضحايا أن الجلسة، التي كان يفترض أن تنعقد برئاسة القاضي سامي صدقي أُرجئت بسبب سفره.
المحامي ماهر جابر: “نتمنى على القضاء التعامل مع القضية بمسؤولية ترتقي إلى حجم الفاجعة”
استفسرت “شريكة ولكن” عن الأمر من وكيل الضحايا، المحامي ماهر جابر. فأجاب بأنه “لا معلومات لديه حول سفر القاضي”.
وقال إن “الجلسة تأجلت بسبب غياب الهيئة القضائية، والاعتكاف القضائي”.
وأوضح أن “الجلسة لم تكن للنطق بالحكم، بل أولى جلسات محكمة الجنايات، بعد عبور القضية أمام قاضي التحقيق والهيئة الاتهامية، وحصولها على حكم الإعدام في المرحلتين”.
وحضرت رئيسة المحكمة القاضية لما أيوب الجلسة بالإنابة، وأعلنت عن تأجيل الحكم إلى 18 شباط/فبراير 2023، بحجة “عدم سوق الموقوفين”.
لكن الصراخ والجلبة التي حدثت في القاعة فور إعلان التأجيل، من دون تقدير دماء الضحايا المهدورة، جعلت القاضية تقدِّم الجلسة إلى 18 كانون الثاني/يناير 2023.
بينما لفت جابر إلى أنه “من الطبيعي أن تمر كل قضية بهذه المراحل قبل البت بالحكم النهائي”.
وتمنى على القضاء أن “يتعامل مع قضية بهذا الحجم بجديةٍ أكبر، وبمسؤوليةٍ ترتقي إلى حجم ألم ذوي/ذوات الضحايا”.
واعتبر أن “التلكؤ القضائي، وغياب المحاسبة الصارمة في جرائم القتل تحديداً، جعل المجرمين يستخفون بالقتل”.
كما شدّد في حديثه لـ”شريكة ولكن” على “ضرورة تنفيذ حكم الإعدام بحق القاتلين، اللذين أبادا عائلة بأكملها عن عمد”.
وأكد أن “عدم تحقيق القصاص العادل قد يؤدي إلى فلتان أمني، واستخفاف بالقوانين واستسهال للجريمة”.
من جهته، شدّد شقيق الضحية باسمة، المحامي بسام عباس على مطلب تسريع المحاكمة.
وقال في اتصالٍ مع “شريكة ولكن”: “فليحترموا دماء الضحايا وأوجاعنا التي لم تبرد بعد، ولن تبرد قبل إحقاق الحق”.
كما استنكر “تباطؤ القضاء والتعاطي ببرودة في مثل هذا النوع من الجرائم، في حين نرى كيف يتعامل القضاء في بلدان عربية مجاورة مع الجرائم التي تهز الرأي العام باستثنائية”.
وأشار إلى أن “استثناء هذه القضايا من التأجيلات واجب، كي لا تتكرر جرائم قتل النساء والفتيات”.
أرواحٌ تنتظر العدالة.. وقضاياهن “عالقة” قضائياً
العدالة البطيئة أشبه بـ”اللا عدالة”
العدالة المنشودة لأرواح ضحايا جريمة أنصار، تنتظرها أيضاً عائلة الصيدلانية ليلى رزق (57 عاماً)، التي قُتلت في 18 نيسان/أبريل 2022.
وعلى الرغم من مرور أكثر من 8 أشهر على الجريمة، إلا أن اعتكاف القضاة أثّر مباشرة على الامتناع عن حصولها على حقها.
فالتراخي المتعمّد عن النظر في القضية، أخّر إصدار الحكم، على الرغم من توفر الأدلة الجرمية.
وملف القضية لا يزال عالقاً لدى قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان، ولم تصدر حتى اليوم مضبطة اتهام لإحالة القضية إلى الجنايات.
وبالتالي لم يصدر الحكم بحق الجناة، علماً أن أحد القاتلَين موقوف، والآخر استطاع مغادرة لبنان بعد تنفيذ الجريمة عبر معابر غير شرعية.
عنوان المرحلة “لم يصدر الحكم بعد”!
المماطلة التي طالت القضايا السابقة ولا زالت مستمرة، ليست الأولى من نوعها.
فتاريخ تعاطي القضاء اللبناني مع قتل النساء كشف في عددٍ كبيرٍ من القضايا التي أُثبت تحقّق العنصر الجرمي فيها، عن تقاعسٍ متكرر.
وهو ما فتح الباب أمام اختلاق أسبابٍ تخفيفية، تؤثّر على الأحكام القضائية بحق الجناة.
وإذا أردنا المرور فقط على الجرائم التي وقعت في السنتين الأخيرتين، سنصطدم بفصلٍ معيبٍ من فصول اللاعدالة، التي تعد وصمة عار على جبين هذا القضاء.
إذ رصدت “شريكة ولكن” وقوع 15 جريمة قتل طالت نساء وفتيات عام 2022.
وجميع هذه القضايا لا تزال عالقة قضائياً بسبب الاعتكاف.
ولأن “العدالة البطيئة” تقارب في مفاعيلها “اللا عدالة”، فإن القضاء المعتكف منذ نحو 5 أشهر، حرم نساءٍ كثيرات من حقهن في اللجوء إليه، لمطاردة الخطر المحدق بهن.
وساهم في تأخير انتفاعهن بفتات حقوقهن المتبقية، ما يعد مخالفاً للقانون الذي يعطي كل صاحب/ة حق مراجعة القضاء.
كما يخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يكفل الحق عينه!
“الاعتكاف القضائي يفتح الباب أمام الثأر”
يفتح هذا التقاعس الباب أمام الثأر وأخذ الحقوق باليد، بحسب ما أشار نقيب المحامين/المحاميات ناضر كسبار.
ففي تعليقٍ له على الاعتكاف، نقلته مجلة “محكمة” الإلكترونية، أكد أنه “من حق المواطنين/ات المطالبة بإصدار الأحكام والقرارات ضمن المهل المعقولة”.
وشدد على أن المطالبة بـ”عودة القضاة/القاضيات عن اعتكافهم/ن واجب وطني ومهني، لأنه مضر ولا ينفع”.
كما حذّر من إمكانية توجّه “المتضررين/ات إلى استيفاء الحق بأنفسهم/ن، وهذا أمر غير مقبول”.
بينما انعكست تداعيات هذا الاعتكاف على الجهات المدَّعية المتضرّرة في جرائم قتل النساء.
وأبرزها الاستهتار، الذي لا يتخوّف منه أهالي الضحايا فقط، بل كل امرأة تشعر بأن أمنها وسلامتها مهددان، ويتعارض في شكله ومضمونه مع روحية القانون.
فالقانون استقر، نصاً واجتهاداً، على أن “الامتناع عن إحقاق الحق، يأخذ عدة أشكال. من أوضحها، التراخي المتعمّد عن النظر في القضية المعروضة. وتأخير الحكم إلى حين تغير الظروف، وتبدل الحيثيات. بما يصبح معه الحق مهدوراً وتضحي معه المنازعات القضائية من غير طائل”.
وهذا ما ينطبق على عددٍ من الجرائم التي أودت بحياة عديدٍ من النساء والفتيات، من دون أن يتواجه المجرمون مع نظامٍ قانوني رادعٍ من الأصل.
فضمانات القتلة بمحاكماتٍ ذكورية ومعها “bonus” التأجيل القضائي، أكثر حضوراً من ضمانات النساء والفتيات بالحماية عبر آلياتٍ صارمة واضحة وقوانين عادلة وغير تمييزية.
2021 و2022 .. عامان حافلان بقتل النساء والفتيات
القضاء شبه معطَّل!
من بين القضايا التي طالها الاعتكاف عام 2022، جريمة وقعت في طرابلس، في 17 آب/ أغسطس.
كانت ضحيتها هناء خضر (21 عاماً)، التي توفيت بعد 11 يوماً من المعاناة، إثر إضرام زوجها المدعو ع. ع النيران بجسدها، وهي حامل في شهرها الخامس.
وفي طرابلس أيضاً، قُتلت الطفلة دلال أندوري (6 أعوام)، بعد تعذيبها على يد زوج والدتها، المدعو محمود كيالي (ملقب بمحمود ظريفة)، في 22 تموز/يوليو 2022.
وأشار والد الطفلة لـ”شريكة ولكن” إلى أن التحقيق كشف “اعتداء المجرم بالضرب على دلال وشقيقها ووالدتهما”.
وأكد أنه “تبين أن تعذيب طفليه بدأ قبل أسبوعين من الجريمة”.
وبتكرار عبارة “بدي حق بنتي”، شدد على ضرورة الإسراع في إنزال أشد العقوبات بحق القاتل. وأضاف: “لن نقبل بغير الإعدام”.
وفي 14 حزيران/يونيو من العام نفسه، نُقلت القاصر هاجر توفيق سنبلة، جثة هامدةً الى مستشفى بعلبك الحكومي، وهي مصابة بطلقٍ ناري.
وأشارت المصادر الأمنية حينها إلى أنها “أصيبت في صدرها، في منزلها في محلة عمشكي، في مدينة بعلبك، بطلقٍ ناري من سلاحٍ مجهول النوع والمواصفات”.
كما وُجدت، في 25 تموز/ يوليو 2022، الضحية علياء. ع جثةً هامدةً داخل منزلها، في منطقة العباسية قضاء صور، وهي مصابة بطلقٍ ناري.
ولا تزال الإجراءات القضائية المتعلقة بكل الجرائم المذكورة عالقةً بسبب الاعتكاف القضائي.
إلا أن المماطلة القضائية، وتأجيل إصدار الأحكام في قضايا قتل النساء ليس طارئاً أو مرتبطاً بالاعتكاف وحده.
الممطالات القضائية ليست جديدة
كان عام 2021 أيضاً حافلاً بجرائم مماثلة، حصدت أرواح كل من البنغلاشية أريدا أبو عليم بيغوم في خلدة، ليليان علوه في الهرمل، وداد حسون في مخيم نهر البارد، أحكام درباس في عكار، وعبير ح. ج. وهي سورية مقيمة في بعلبك.
ولم يصدر حتى اليوم أي حكم قضائي في أيٍّ منها!
كما أن القضاء في محافظة البقاع شبه مشلول منذ 3 سنوات، بسبب تكدّس الملفات نتيجة تعطيل هيئة الجنايات في المنطقة.
وقد حدث ذلك بعد استقالة رئيسها القاضي داني شرابية في النصف الأول من عام 2021.
ولم تُعيَّن هيئة قضائية بديلة حتى الآن، للنظر في القضايا الجنائية التي تقع في أقضية بعلبك وزحلة والهرمل وراشيا والبقاع الغربي، بسبب الشلل السياسي.
هل ينتصر القضاء أخيراً لروح زينة كنجو؟
القاتل في قبضة السلطات السويدية بعد تنقّله بحريّة بين لبنان والخارج!
في 30 كانون الثاني/يناير 2021، قتل إبراهيم غزال زوجته زينة كنجو خنقاً في منزلهما في منطقة عين المريسة.
وبعد يومٍ واحد من تنفيذه الجريمة، غادر القاتل لبنان إلى اسطنبول، في 31 كانون الثاني/يناير 2021.
بينما تبيّن لاحقاً أن زينة تقدّمت في وقتٍ سابقٍ بدعوى عنف أسري أمام مفرزة بيروت القضائية، وكانت تنتظر الحصول على الطلاق.
لكن القاتل تمكّن من استدراجها إلى منزلهما، حيث أنهى حياتها.
تجاوزت هذه القضية التقاعس القضائي اللاحق للجريمة.
فالنساء اللواتي يبلّغن عن تعرّضهن للتعنيف، لا يضمنّ التحرك الفعلي لحمايتهن، بسبب غياب آليات الحماية الفعالة.
فخُنقت زينة بدمٍ بارد على يد إبراهيم الغزال، الذي سرعان ما لهثت القنوات التلفزيونية لاستقباله، سعياً وراء المشاهدات على حساب أرواح النساء.
كما قدمته كـ”عاشقٍ قاده الحب إلى قتل حبيبته”!
واستثمر الغزال في تبييض صورته، مستفيداً من القوانين القاتلة للنساء، ليُنسج قضية خيانة تمنحه الأسباب التخفيفية.
بينما هو القاتل الخائن، الذي اكتشفت ضحيته قبل مقتلها بوقتٍ قصير أنه متزوج ولديه أطفال/طفلات، ونصاب محترف في سجّله العديد من الصفقات غير الشرعية.
وعلى الرغم من أنه شُوهد مراتٍ عدة في أماكن عامة في لبنان، عجزت الجهود الأمنية المحلية الخجولة عن توقيفه.
لكن، بعد نحو عامين، تنقّل خلالهما بأريحية، ولو عبر معابر غير شرعية، بين تركيا ولبنان، أوقفه القضاء السويدي نهاية عام 2022.
وذلك تنفيذاً لمذكرتي الإنتربول الدولية والتوقيف الغيابية الصادرتين في حقه.
وعلّق وكيل عائلة زينة، المحامي أشرف الموسوي في اتصالٍ مع “شريكة ولكن”، على توقيف القاتل.
فرجّح أن يكون “خرج من لبنان بطريقةٍ غير شرعية، خصوصاً بعد تحريك القضية إعلامياً في الآونة الأخيرة، والمطالبة بتكثيف الجهود الأمنية لتوقيفه في لبنان”.
بدورها، طالبت السلطات اللبنانية “السلطات المختصة في السويد الموافقة على طلب استرداد الغزال وتسليمه للسلطات اللبنانية لمحاكمته في بيروت أصولاً”.
أرواح منال التيماني و9 ضحايا أخريات تنتظر العدالة
منذ عام 2020 والقضية لا زالت في انتظار إحالتها إلى محكمة الجنايات!
حالُ التقاعس القضائي ليس جديداً، بل هو نفسه بالنسبة إلى جرائم وقعت في سنوات سابقة أيضاً.
والأمر ليس مرتبطاً بغياب العناصر الجرمية او توفرها، فكلّ الجرائم التي سنأتي على ذكرها في هذا التحقيق، هي تلك التي أُثبت فيها العنصر الجرمي، سواء بالدليل أو بالاعتراف.
ففي 21 نيسان/أبريل 2020، ذبح مازن حرفوش زوجته منال التيماني، وقتل 9 أشخاص آخرين ببندقية صيد، بمن فيهن/م شقيقيه وطفلين.
اعترف القاتل بأن “شكوكاً فقط” قادته نحو جريمته التي خطط لها ونفذها بدمٍ بارد.
لم ينكر. لم يعبر عن ندمه، بل اعترف واكتفى بأنه “شي وصار”!
اليوم، بعد أكثر من سنتين على الجريمة، تخللتها محاولات للنيل من سمعة منال، وهو شكل من أشكال خلق الأسباب التخفيفية، لم يصدر الحكم بعد!
وفي حين تنتظر أرواح الضحايا وعوائلهم/ن العدالة، ما يزال الملف عالقاً أمام الهيئة الاتهامية في جبل لبنان، بانتظار إحالته أمام محكمة جنايات جبل لبنان!
الأعذار التخفيفية .. مكافآت “عرفية ذكورية” على شكل أحكام قانونية
كيف تقتل المواد 562 و252 و550 من قانون العقوبات الضحايا مرة ثانية؟
ليس غريباً أو جديداً أو مُستهجناً أن يُنتهك أمن النساء والفتيات، في ظل قوانين جنائية وأحوال شخصية وجنسية وعمل، تتعامل معهن كأنهن مواطنات ناقصات الأهلية.
فلِم الاستغراب من تأثير الاعتكاف القضائي الراهن، إذا كانت المماطلة والتأجيل وخلق الأعذار التخفيفية، هي النموذج السائد في التعامل مع هذه القضايا؟
وإذا كان الاعتكاف هو سيد الموقف، والمتحكّم بالعدالة في الفترة الأخيرة، فالأحكام التخفيفية التي شهدتها قضايا متصلة سابقة، عكست كيف يلاحق شبح الذكورية النساء إلى قبورهن، ويقضي على ما تبقى من العدالة.
القوانين الجنائية، التي لا تضع آليات واضحة وصارمة لحماية النساء من الاستضعاف والقتل عموماً، ومن جرائم العنف الأسري تحديداً، قدّمت للجناة “مكافآت” عرفية، على شكل أحكامٍ قانونية، تحت مسمى “أسباب تخفيفية”.
وقد أُلغيت في لبنان المادة 562، التي كانت تساعد القاتل للحصول على أسباب تخفيفية في جرائم قتل النساء والفتيات بذريعة “الشرف”.
لكن في المقابل، جاءت المادة 252 من قانون العقوبات لتمنح القاتل عذراً تخفيفياً “إذا أقدم فاعل الجريمة عليها بثورة غضبٍ شديدٍ ناتجٍ عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجني عليه”.
كما وجد بعض المجرمين مخرجهم القانوني من خلال المادة 550 من قانون عقوبات.
وهي المادة التي استخدمها بعض القضاة لإخراج التعنيف المفضي إلى الموت من دائرة القتل العمدي إلى “التسبب بالقتل”.
فتنص هذه المادة على أن “من تسبب بموت إنسان من غير قصد القتل، بالضرب أو العنف أو الشدة أو بأي عمل آخر مقصود عوقب بالأشغال الشاقة 5 سنوات على الأقل”.
في جميع الأحوال، يحاول الجناة دائماً الاستفادة من الأحكام التخفيف.
كيف حاول قاتل منال عاصي إعادة إحياء ما يسمى بـ”جرائم الشرف”؟
هذا ما حاول المجرم محمد النحيلي، قاتل منال عاصي (33 عاماً)، استغلاله. وكان القضاء اللبناني على وشك تحقيقه.
ففي 14 تموز/يوليو 2016، قضت محكمة جنايات بيروت بمعاقبته بالسجن 5 سنوات فقط، “لإفادة القاتل من العذر المخفف”، استناداً إلى المادة 252 عقوبات.
وقد صدر هذا الحكم المخفف، على الرغم من لجوء القاتل إلى أساليب قتل وحشية استمرت على مدار ساعات.
بينما شكّل الحكم حينها إعادة إحياء لما يسمى بـ”جرائم الشرف” كعذرٍ لقتل النساء، بعد تَقدّم لبنان خطوة هامةً لمكافحة هذه الجرائم، تمثّلت بإلغاء المادة 562.
وبعد استنكارٍ وغضبٍ عارمٍ عمّ الشارع اللبناني، وتمييز عائلة منال للحكم، حجبت المحكمة إمكانية التذرع بالعذر المخفف، بحجة حصول الجرم تحت وطأة الغضب الشديد.
لذلك، أصدرت حكماً لا رجعة عنه في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، قضى بسجن المجرم 18 عاماً مع الأشغال الشاقة.
علماً أن القاتل عذّب منال حد الموت في شباط/ فبراير 2014، أي أن صدور الحكم انتظر ما يزيد عن سنتين.
بعد تلكؤ 9 سنوات .. الحكم على قاتل رولا يعقوب بـ5 سنوات فقط!
بحسب المادة 550 من قانون العقوبات: قتل تسبّبي وليس قصدي
من منا لم تسمع/ يسمع بجريمة قتل رولا يعقوب (33 عاماً) على يد زوجها كرم البازي؟
ارتكب القاتل جريمته في 7 تموز/يوليو 2013، من خلال الضرب المبرح المفضي إلى الموت.
انتظرت عائلة رولا، تحديداً والدتها التي لم تستسلم لمحاولات تبرئة قاتل ابنتها، 9 سنوات حتى صدور الحكم.
سنواتٌ تسع، تخللتها محاولات للهروب من العدالة، ومنح البازي صكوك براءة، ومماطلاتٍ قضائية، وتدخلات للتأثير على الحكم، وصولاً إلى تبرئته من جريمة القتل العمدي.
ففي 23 آذار/مارس 2022، حُكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة لـ5 سنوات فقط، وإلزامه بدفع 300 مليون ليرة لبنانية، كتعويض لوالدتها ليلى خوري.
مع ذلك، تضمن الحكم، الذي استهتر بحياة رولا ومعها كل النساء والفتيات المعنفات، تهمة “التسبّب بالموت”، أي القتل التسببي وليس القتل القصدي.
إذ استند إلى المادة 550 من قانون عقوبات، المرتبطة بجرائم التسبب بالقتل، وليس بجرائم القتل العمدي.
مع العلم أن عدداً من القضاة/القاضيات تنحوا/ين عن متابعة هذه القضية، التي شغلت الرأي العام نتيجة الضغوط والتدخلات.
بينما كان لافتاً أن الحكم الأخير أتى تمييزياً، بعد صدور حكمين سابقين عن محكمة جنايات لبنان الشمالي قضيا ببراءة القاتل عامي 2014 و2018، على قاعدة عدم كفاية الأدلة بتسببه بمقتلها جراء تعنيفها!
أحكام أخرى سابقة طالتها المماطلة
وفي سياقٍ متصل، شهدت قضايا سابقة مماثلة مماطلة قضائية، وتأخراً في صدور الأحكام.
ومن بينها قضية نسرين روحانا (مواليد 1976)، التي قتلها زوجها جان ميشال ديب في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، رمياً بالرصاص.
إذ تأخر صدور الحكم ما يزيد عن السنتين.
ثم قضت محكمة الجنايات، في 3 شباط/فبراير 2017، حكماً بالأشغال الشاقة المؤقتة مدة 25 عاماً، ودفع مبلغ 200 مليون ليرة لبنانية كعطل وضرر للجهة المدعية.
واستبعدت المحكمة العذر المخفف المرتبط بالمادة 252، لكن القاتل حاول، رغم ذلك، الاستفادة من العذر التخفيفي، عبر الادعاء بـ”وجود علاقة تجمع نسرين برجلٍ آخر”.
كما تأخر صدور الحكم في قضية قتل محمد منذر لزوجته رقية منذر (24 عاماً) رمياً بالرصاص في 20 آذار/مارس 2014، حتى 13 كانون الأول/ديسمبر 2016.
وتضمن الحكم الصادر عن رئيس محكمة الجنايات في جبل لبنان القاضي هنري خوري قراراً بالسجن 22 سنة، ودفع مبلغ 180 مليون ليرة كعطل وضرر للجهة المدعية، إلا أنه غير موقوف!
المحامي أشرف الموسوي: “بعض الممارسات القضائية غير مقبولة”
“التحقيقات في قضايا العنف ضد النساء والفتيات يجب أن تكون أسبوعية”
عملاً بواجب إحقاق الحق في وقته، رأى المحامي أشرف الموسوي أنه من الضروري والأكثر إنصافاً أن “تكون دعاوى قتل النساء، أو التعنيف، والمحاكمات والتحقيقات والاستماع إلى الموقوفين، أسبوعية، وليس شهرية أو كل شهرين كما هو معتمد، لتجنب أخذ الدعاوى سنوات قد تصل إلى 7”.
وشدد على وجوب تشكيل “محكمة جنايات واحدة مختصة بقضايا قتل النساء والعنف الأسري في كل المناطق اللبنانية، لا تنظر إلا في هذا النوع من القضايا”.
وتعليقاً على بعض السلوكيات القضائية التي ساهمت في تأخير العدالة، قال: “أقولها بشكلٍ جدي ومباشر، إن ممارسات بعض القضاة/القاضيات، سواء من خلال التأجيل أو المماطلات غير مقبولة على الإطلاق”.
وأضاف إن “الاعتكاف بشكلٍ عام يؤثر في الوقت الراهن، بطريقةٍ أو بأخرى على مسار التحقيقات والمحاكمات على ملفات قضايا العنف الأسري، وقتل النساء والفتيات”.
كما أشار إلى أنه “يبدو أن الاعتكاف في خواتيمه”، وشدد على أنه “أول ما يجب العمل به هو تسريع محاكمات الموقوفين في هذه القضايا”.
وقال إن “الإعلام هو أكبر ضاغط على القضاة/ القاضيات، وحافز ضروري لحثّهم/ن على تسريع المحاكمات”.
من ناحيته، اعتبر المحامي باسل عباس أن “عدم الجدية والمماطلة وتكديس الملفات والفساد القضائي، ليس واقعاً جديداً”.
إذ أوضح أنه “لطالما أثر على مسار العدالة المنشودة، والدليل قضايا قتل النساء الكثيرة التي حصلت في السنوات الأخيرة، واحتاجت كل منها لسنواتٍ للبت بالحكم القضائي”.
بين التعطيل والتأجيل..
من ينتصر لأرواح الضحايا؟
وكأن ما كان ينقص النساء والفتيات، في ظل هذا النظام القاصر عن تأمين مساحة قانونية ضامنة لحمايتهن، اعتكافٌ قضائي يؤخّر العدالة ويضع قضاياهن المستعجلة على مقصلة التأجيل والتعطيل بعد التنكيل.
هن اللواتي فقدن الأمل بتعليق أمنهن على آليات حمايةٍ شبه وهمية، لا تجنّبهن شرور العنف الذكوري بأشكاله المختلفة.
وباتت العدالة لأرواحهن اليوم “عالقة” ما بين هاجس الأحكام التخفيفية وخطر الاعتكاف القضائي.
فمن ينتصر لأرواح الضحايا؟
كتابة: مريم ياغي