عرض ونقاش كتاب: حكايات الإجهاض للكاتبة النسوية غدير أحمد
تضع الكاتبة والباحثة النسوية غدير أحمد عدستها النسوية التقاطعية على أعيننا، ونحن نقرأ إبداعها في كتاب (حكايات الإجهاض: النساء بين العائلة والقانون والطب). يوثّق الكتاب، عبر بحث إثنوغرافي دام خمس سنوات، قصصًا حقيقية لنساء خضن تجربة الإجهاض القصدي في مصر. على الرغم من القيود المفروضة عليهن، تدفعهن إليه ظروفهن الشخصية، لأسباب تختلف باختلاف سياق كل قصة.
تقدم الباحثة ثلاث فرضيات حول الدلالات السياسية للإجهاض القصدي، حيث يصل إلى ما تسميه فعل مقاومة سياسي في الفرضية الأولى. وتنطلق في الفرضية الثانية من أن النظم السياسية والاجتماعية والبنى القمعية تنتج ذواتًا نسائية مُقاوِمة. تتضح فعاليتها من خلال تجارب الإجهاض القصدي، وتركز الفرضية الثالثة على إعادة المجهضات إنتاج جدلية الحق في الحياة لصالحهن.
صدر الكتاب في وقتٍ تستعر فيه الحملات المناهضة لحق النساء في الإجهاض الآمن، وتتصاعد عالميًا لتصل إلى ما تم تسميته (إعلان توافق جنيف بشأن تعزيز صحة المرأة وتقوية الأسرة)، في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2020.
وهذا الإعلان يناهض حق النساء بالإجهاض، وتم تحت رعاية دول منها الولايات المتحدة الأميركية (لاحقًا انسحبت إدارة الرئيس الأميركي بايدن من الإعلان). وشملت البرازيل ومصر والمجر وإندونيسيا وأوغندا، ووقّعت عليه 34 دولة. وإذ يزداد الهجوم على حق الإجهاض في عديد من الدول وفي الولايات المتحدة، تتسع رقعة الحماية القانونية له في دولٍ أخرى. من هذه الدول، الأرجنتين وكولومبيا وأيرلندا وكوريا الجنوبية، نتيجة جهود الحركات الحقوقية والنسوية.
“كنسوية أقول لا. فهذا نضال، مثل النضال العلني والمرئي والظاهر. وكونه غير علني وغير مرئي وغير ظاهر، لا ينفي كونه نضالًا سياسيًا تاريخيًا”.
عن كتاب حكايات الإجهاض
من نافل القول أن الكاتبة واجهت تحدياتٍ كبرى، منها غياب المراجع والمصادر ذات الصلة. هذا إضافة إلى الفجوة الأكاديمية بشأن الإجهاض القصدي غير الآمن، ونقص المعلومات، والإحصائيات الرسمية غير المتاحة. عدا عن حساسية الموضوع واعتباره من التابوهات، فهناك صعوبة الوصول للنساء المجهضات، نتيجة عوامل منها الخوف من الملاحقات الأمنية والتعتيم والسرية. وذلك شكّل لدى الكاتبة مخاوف على حياتها وحريتها، وسط تضييقٍ أمني على الحريات الأكاديمية في مصر.
لكن شغفها النسوي الصادق، دفعها إلى البحث العميق وإنجاز هذا الكتاب “الفريد من نوعه”، وفق تعبير د. سها بيومي التي قدمت الكتاب. حيث أشارت إلى أهمية التأريخ الشفوي لتجارب الإجهاض التي وثّقتها غدير أحمد. ووصفت أسلوبها في الكتابة بأنه “يستعصي على التصنيف، لرفضه الإمتثال لقواعد الكتابة في نوعٍ واحد”. وتؤكّد د. بيومي أن هذا الكتاب سيكون له “أثرًا كبيرًا في مسيرة الحركة النسوية في مصر، بما تصبو إليه من إعلاء أيدي النساء في تقرير مصائرهن ومستقبلهن”.
يحلّل الكتاب الخطاب المناهض للإجهاض في السياق المصري الاجتماعي والقانوني والسياسي والتاريخي. إلا أن تقاطع هذه السياقات مع نظيرتها في دولٍ أخرى، يجعل من أطروحاته عابرة للحدود المصرية. فهي تصف أوضاع النساء في مناطق مختلفة من العالم، وخاصة الدول الناطقة باللغة العربية. حيث تسيطر الخطابات الأبوية بأوجهها المتنوعة دينيًّا، اجتماعيًّا، سياسيًّا، ثقافيًّا، وغيرها من خطابات تنفي حق النساء في امتلاك أجسادهن وتقرير مصائرهن الجنسية والإنجابية. ولهذه الأسباب تحديدًا، نرى أهمية الكتاب وشجاعة كاتبته.
راسلتُ غدير أثناء القراءة، ووجهت لها أسئلة وتعليقات، لتوضيح نقاط مهمة في طرحها النسوي التقاطعي والعميق معرفيًّا وبحثيًّا. فكانت هذه المادة مزيجًا من عرض أفكار الكتاب، ومناقشة بعضها مع الكاتبة.
كتاب حكايات الإجهاض وإعادة نظر في الآراء الفقهية
ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول. تقدم الباحثة في الفصل الأول معنى الإجهاض في السياق المصري، مُبيّنة تعريفاته لغويًّا وطبيًّا وقانونيًّا. كما تعرض قصور التشريع في علاقته بالدستور المصري، طارحةً تساؤلات حول التزام القانون المصري بأحكام الشريعة. وذلك لأن تجريم الإجهاض في القانون المصري يعتمد على الشريعة الإسلامية، ويمتثل له غير المسلمات/ين.
تستعرض غدير أحمد اختلاف الآراء الفقهية، وأسباب التشدّد في التجريم المطلق، كما لو أن تحريم الإجهاض مُطلق أيضًا. وهو ما لم يَرِد في النص القرآني أو الأحاديث الصحيحة. ما دعا الفقهاء، على اختلاف مذاهبهم، إلى اعتماد نصوص خاصة بما يُسمى “التخليق” في الفقه.
تستند الشريعة الإسلامية إلى الآراء الفقهية المتعددة للمذاهب الإسلامية المختلفة، ويكون الإجماع هو الفيصل. إلا أن تجريم الإجهاض في القانون المصري يخالف إجماع الآراء الفقهية التي أباحت الإجهاض قبل مائة وعشرين يومًا. ومع ذلك، ظلّ قانون العقوبات جامدًا، يأخذ من آراء الفقهاء أكثرها صرامةً وأقلها إجماعًا، في المواد (260-264). ولا يستثني من التجريم إجهاض الحمل الناتج عن الاغتصاب من غرباء أو أفراد الأسرة، سواء محارم أو أزواج.
هنا تتوسع الباحثة في تبيان القصور في مواد قانون العقوبات المتعلقة بإسقاط الحوامل. حيث استشهدت بثلاثة طعون تبين التناقض القانوني والتحيّز الجنسي للقضاة في وقائع إجهاض حدثت بشكل غير آمنٍ طبيًا، وأدّت لوفاة الحوامل (ص26).
View this post on Instagram
نحو عدالة جنسية وإنجابية
يجدر القول أن هذا الأسلوب الانتقائي، الذي تنتهجه كثيرٌ من الدول التي تعتمد الفقه الإسلامي مصدرًا للتشريع، ما هو إلا أداة الأنظمة، لتوظيف الدين بما يناسب مصالحها السياسية. لذا، يكمن الحل في تطوير قوانين وضعية تولي الأهمية لقيم المواطنة. فتسري على المواطنات/ين بغض النظر عن معتقداتهن/م الدينية، وفق مبادئ حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية.
تستعرض الكاتبة مساهمات الحراك النسوي المصري، التي حققت نجاحات متعلقة بحقوق النساء في مجالات عدة. وسلطت الضوء على قضية الإجهاض في التسعينيات، من خلال المؤتمرات الدولية، كمؤتمري القاهرة للسكان والتنمية عام 1994 وبكين عام 1995. وفيهما، تم ذِكر الحق في الإجهاض الآمن للمرة الأولى، من منظور الرعاية الصحية كحق مواطنة أساسي. كما أشارت إلى جهود المنظمات النسوية، لإيجاد آليات متنوعة لرفع القيود القانونية حول الإجهاض. وتلك تشمل الكتابات النسوية، وحملات الدفاع والمناصرة، أو نقد السياسات، أو التحالفات الدولية والإقليمية.
تؤسس الكاتبة في الفصل الثاني إطارًا معرفيًا نظريًا من منظور نسوي نقدي، يربط جنسانية النساء بالسلطة السياسية الاجتماعية تاريخيًا. وذلك عبر دراسة إثنوغرافية استمرت خمس سنوات، مابين آب/ أغسطس 2017، و آب/ أغسطس 2022. تناقش هذه الدراسة المكثفة الإجهاض القصدي غير الآمن بوصفه قضية عدالة جنسية وإنجابية للنساء والمهمشات/ين، في مصر. وتوضّح الصعوبات التي تعانيها النساء المجهِضات قصديًا في رحلتهن غير الآمنة لممارسة هذا الحق.
يوجد الآن نساء محبوسات في منازلهن، ولا يقال عنهن “معتقلات”. بنفس المنظور الأبوي، ماهو الاعتقال؟ هو الزَج في سجون الدولة. والسجن هو تجربة الرجال السياسية في المجال العام. أما نضالات النساء، فيتم تصويرها كتجاربٍ شخصية وخاصة.
الرأسمالية والإجهاض
وعلى الرغم من تزايد الفردانية وتعمق فلسفاتها وممارساتها الظاهرة في المجتمعات الرأسمالية، وتنامي الحركات المطالبة بحقوق الأفراد غير المعياريات/ين، تستخدم الكاتبة المنهج التقاطعي في تحليلها النسوي للدلالات السياسية لفعل الإجهاض القصدي. وذلك انطلاقًا من “اعتبار الرأسمالية العائلة الغيرية نواة المجتمع”.
وردًا على سؤالي بشأن هذه النقطة، تقول الكاتبة:
“اعتمدت في تحليلي على الرأسمالية الكلاسيكية. وهذا قبل التحور النيوليبرالي للرأسمالية، وهي التي تعتبر الأسرة نواة المجتمع للأسباب الواردة في الكتاب. مثلًا، إعادة الإنتاج الاجتماعي، النساء ينتجن طفلات/أطفال الأطفال يلتحقن/ون لاحقًا بالقوى العاملة، والثنائية الجندرية هي الأساس”.
واعتبرت أن “التحول النيوليبرالي في الرأسمالية، أو ما نعرفه حاليًا بالرأسمالية المتأخرة، هو في الأساس تطويع كلّ شيء لخدمة هذا النظام وبقائه. رغم أن النظام، مثلًا، قام على الأسرة الغيرية منذ قرونٍ، فهو الآن لايتخلى عنها. لكنه يحاول ضم أكبر عدد ممكن من الأشخاص، والاستفادة من صراعاتهن/م مع الرأسمالية الأبوية. وذلك مثل إنكار المثلية الجنسية، أو أي هويات اجتماعية خارج الثنائية الجندرية رجل/امرأة، أو أي علاقات جنسية خارج إطار الزواج. فالرأسمالية تحاول احتواء هذه الصراعات التي خلقتها هي أساسًا، وتستغلها من أجل الربح. مثال ذلك مسيرات الفخر، وكيف تستخدمها الشركات الرأسمالية الآن”.
وأكّدت أن “هذا لا يعني تخلّيها عن الأسرة الغيرية إطلاقًا. لو أن النظام الرأسمالي بقي كما هو بدون أن يتحوّر بسبب التحولات التي سبّبتها الحركات الإجتماعية، لن يبقى ولن يستمر. لكن ذلك لا يعني أيضًا أن الحقوق خارج حدود المعيارية الغيرية، مضمونة ومستمرة. فالرأسمالية نظام ذكي جدًا في شراكته مع الأبوية”.
هذا الكتاب “الفريد من نوعه”، وفق تعبير د. سها بيومي التي قدمت للكتاب. حيث أشارت إلى أهمية التأريخ الشفوي لتجارب الإجهاض التي وثقتها غدير أحمد. ووصفت أسلوبها في الكتابة بأنه “يستعصي على التصنيف، لرفضه الإمتثال لقواعد الكتابة في نوعٍ واحد”.
الأسرة الغيرية
استطردت الكاتبة النسوية غدير أحمد، مشيرةً إلى “الانقضاض على حق الإجهاض على مستوى فيدرالي وعلى مستوى الولايات الأميركية كلها. وكذلك حقوق العبور الجندري والزواج المثلي، وكل الأمور الخارجة عن المعيارية التي خلقتها الرأسمالية داخل الأسرة، وتوارثتها الأسرة بدورها، هي حقوق قابلة للسحب والمقايضة”.
وتابعت: “هناك هجوم أيضًا من التيارات اليمينية المحافظة والدينية على هذه الحقوق. ومهما دعمتها الرأسمالية، تبقى الأسرة الغيرية هي النواة التي يستمر من خلالها الهجوم على هذه الحقوق.
يتمثل ذلك في خطابات الكراهية، والهجوم على الأفراد اللامعياريات/ين، سواء بعمليات إطلاق النار الجماعية مثل كندا وأميركا، أو السجن والتهم الفضفاضة في بلداننا، كنشر الفسق والفجور”.
وعن سؤالي لماذا تدعم الرأسمالية الأسرة؟ أجابت غدير:
“ليس ذلك من أجل المعيارية الغيرية، وهي أداة الرأسمالية في استمرار النظام الإجتماعي باعتباره ذراع من أذرعها الأبوية فحسبٍ. ولكن لأن الأسرة أمر متعلق بالاحصاءات. فالرأسمالية قائمة على الأرقام، والقوانين التي تنظم حيوات الأفراد بما يخدم المصالح الاقتصادية والسياسية.
لو نظرنا مثلًا إلى تقنين الزواج المثلي، وإن كان خارج دائرة النقاش، لكن اذا نظرنا إليه، لوجدنا أن هناك شيء له علاقة بفكرة القوانين، أو كيف يتم تنظيم العلاقات الاجتماعية حسب كل بلد. التوثيق، التعداد، الإحصاء، كلها أدوات رأسمالية. وتقنين الزواج المثلي، بالنسبة لي، يدخل تحت هاتين المظلّتين: الاستقطاب والتعداد”.
الرحم وإشكالية الإنتاج والتشييء
تستخدم غدير نظرية العمل لكارل ماركس، في فهم الشراكة بين الأبوية والرأسمالية المتمركزة حول الإنتاج ومفهومه.
في تحليلٍ لافتٍ، تسرد كيف انتقدت منظّرات نسويات تصنيفات العمل الماركسية، التي أهملت دور النساء في سيرورات الإنتاج. وأوافقها في هذا، لكن استوقفتني عبارة متكررة داخل الكتاب: “الرحم أداة إنتاج”. في رأيي، هو تعبير أرى أنه يتضمن تشييئًا للإنسان، من خلال اعتباره مُنتجًا بحد ذاته.
ترى الماركسيات أدوار النساء في الأسرة أعمالاً منتجة. وذلك وفق نظرية قسّمت العمل إلى أعمال بسيطة لا تساهم في تراكم رأس المال، وأعمال تتطلب مهارات تساهم في تراكم رأس المال (كما ورد في الكتاب). وهو ما سبق ماركس إليه جون سمث، الذي اعتبر في كتابه “ثروة الأمم” أن هناك أعمال لا تنتج قيمة استهلاكية، ومنها أعمال الفلاسفة والمفكرين والمحامين والقضاة، الخ.
لكنه أشار إلى أن هذه الاعمال تحمل قيمة معنوية لا تقدَّر بثمن. بينما الأعمال التي فيها منتج مادي معرّضة للاستهلاك، الذي يتضمن تدمير قيمة وخصائص المنتج. ومفهوم رأس المال عند ماركس، هو وقت العمل المدفوع أجره، فتقسيم العمل الجنسي خصّ النساء بأدوار جرى تقليل قيمتها وأهميتها تاريخيًّا، لحساب الأعمال التي تم تصنيفها كمنتجة.
مقاربة نسوية للاقتصاد السياسي
هذه الأعمال التي تقوم بها النساء ذات قيمة إنسانية وأخلاقية، وتناول الفرد الإنساني من زاوية الإنتاج، يضعني في حيرة. وذلك لأن منظور الإنتاج ضيّق، وغير متناسب مع أمر يحتاج تحليلًا انثروبولوجيًا وفلسفيًا وإنسانيًا أبدعت الكاتبة في تقديمه.
كذلك لا أتفق معها في توصيف الإنجاب بأنه “إنتاج قوة عمل: ولادة العمال أنفسهم”. إذ أرى أنها حكمت على ما هو اجتماعي بحكمٍ اقتصاديٍّ أو أيديولوجيٍّ سياسيٍّ. بمعنى أن أداة القياس الاقتصادية، بخصوص الإنتاج، غير موفّقة في هذه النقطة. مع اتفاقي الكلي حول مشقّة هذا الدور غير مدفوع الأجر، والذي أعتقد بوجوب تناوله كبيئةٍ حاضنةٍ وداعمةٍ لإنتاج قوة العمل، وليس بوصفه “أداة انتاج” وحسب.
من ناحيتها، شدّدت غدير أحمد على أن “الرحم أداة إنتاج تنتج منتجًا ماديًا، ليتم دمجه اجتماعيًا واقتصاديًا بعد ذلك كقوة عمل”.
وإذ اعتبرت أن “الإنسان هو منتَج”، أوضحت أن “مصطلح إنتاج يشير إلى كل شيء يتم استخدامه وإنتاجه لاستمرار الحياة البشرية. سواء كان ذلك منتجًا ماديًا أو غير مادي، كالعمل الإبداعي”.
ورأت أن “العمل الإنجابي والدور الإنجابي، شئنا أم أبينا، هو منتج مادي وليس عاطفي. قد يكون الدور الرعائي عملًا عاطفيًا، غير ملموس. مادته متمركزة حول حب ومشاعر وتضحية… الخ. لكن الإنجاب يُنتج منتجًا ماديًا وملموسًا، أي الإنسان بعد الولادة. وطالما أن هذا المنتج يتم استخدامه وتوظيفه اقتصاديًا، فهو منتج اقتصادي ويصلح للقياس بأدوات القياس الاقتصادي/ أو أدوات الاقتصاد السياسي”.
من الإنجاب إلى الإجهاض
وأضافت: “طالما يتم استخدام الإنسان بهذا الشكل فهو منتَج، وطالما يتم إنتاجه بشكلٍ مادي فهو منتَج، وطالما يحقق منفعة بشرية فهو منتَج، وطالما يساهم في الإنتاج الاجتماعي فهو منتج”. موضّحةً أن “كلمة منتج بالنسبة لي، لا تعني فقط منتج اقتصادي. بل تشير إلى مفهوم الاقتصاد السياسي لما يعرَف بالإنتاج أو ماهية الأشياء المنتجة بشكلٍ مادي، وغير مادي”.
وأشارت إلى أنّ “جميع الأدبيات النسوية التي اشتبكت مع نظرية العمل سواء لسميث أم ماركس، اعتمدت على نظرية الإنتاج الاجتماعي ونظرية العمل. وذلك في التدليل على أن ما تفعله النساء هو عمل، وما تقوم به النساء من دور رعائي وظيفة، لكنها غير مأجورة. وبالتالي، يأتي هنا دور الاستغلال الذي أتحدث عنه”.
وتابعت: “لو الإنجاب أنتج لنا أنثى بالمفهوم البيولوجي، وهذه الأنثى أصبحت امرأة بالمفهوم الجندري، ثم تابعت وأنجبت، فقوة عملها الإنجابية مستغلة وقوة عملها الرعائية مستغلة. وهي نفسها منتج يتم استغلاله. وهذا لا أعتبره تشييئًا، وإنما مقاربة نسوية نقدية لنظريات الاقتصاد السياسي”.
هل الإجهاض القصدي فعل مقاومة نسوي؟
يخوض الفصل الثالث غمار خمس عشرة قصة، لنساء عشن تجارب إجهاض قصدي غير آمنٍ. تنوّعت بتنوع ظروفهن وخلفياتهن الاجتماعية، وحسب السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
استطاعت الباحثة اكتساب ثقة النساء المجهضات، لتضعنا في تفاصيل دقيقة من حكاية كل واحدة منهن. نلج معهن حيواتهن، ونسمع منولوجاتهن الداخلية. نقف معهن في وجه العنف الذي اختبرنه، سواء كان عنفًا أسريًا أو عنفًا جنسيًا.
من خلال القصص، نلمس كيف أن “حرمان النساء من الإجهاض لا يمكن رؤيته إلا تمييزًا وعنفًا ضد النساء. هؤلاء اللواتي فقط يرغبن في التحكم بأجسادهن، بما يتماشى مع سياق كل منهن وظروفها الشخصية وتجربتها” (ص342). كما نتعرف على النساء الداعمات في محيط المجهضات.
حيث تتناول الكاتبة دعمهن كقضية تتجاوز الدعم النفسي واللوجستي، وتحلّلها كقضية ذات بعدٍ سياسيٍ. وهي ترى أن هذا الدعم، وإن كان غير منظم عبر شبكة ذات استراتيجية عمل وأجندة واضحة، إلا أنه يعدّ تضامنًا نسويًا يمثل رفضًا للهيمنة الأبوية على أجساد النساء، رغم التبعات القانونية والاجتماعية. وهو كذلك مقاومة مبنية على الهوية الاجتماعية، من شأنها خلخلة أنظمة سياسية تاريخية شرعنت استغلال النساء.
التضامن النسوي والنضال النسوي
أتفق مع الكاتبة في طرحها الذي تعبر بوضوح عن عدم رغبتها بإضفاء طابع رومانسي حالم عليه. إلا أنني تساءلت أنه لطالما دعمت النساء بعضهن تاريخيًا. لكن زعزعة الأنظمة الأبوية، التي تزداد توحشًا، تحتاج مزيدًا من العمل المنظم، واجتراح أدوات نسوية جديدة، تستطيع التأثير في الأجيال الجديدة.
تتّفق الكاتبة على أنه “على مدار التاريخ دعمت النساء بعضهن. إنما لم يكن هناك تسميات لهذا الدعم بالتضامن النسوي الذي نعرفه اليوم. كما لم تستهدف خلخلة الأبوية كنظام سياسي في أغلبها”.
وفي هذا السياق قالت: “ساعدت أمي نساء كثيرات في حياتها، وتعلمت منها النسوية، لكنها لا تعرف شيئًا عن النسوية. الفرق أننا الآن قادرات على تسمية الأشياء بمسمياتها التي استلهمناها من نضالنا النسوي. وكنتيجة لذلك، نستطيع تنظيم أنفسنا وفعل هذه الخلخلة معًا”.
في حين أثارت مخاوفها تجاه “المطالبة بأدوات نضال أكثر تجليًا ووضوحًا، في ظلّ توحّش الأبوية”، معتبرةً أنّه ليس آمنًا أن “نقول للنساء أن يقاومن وأن يتلقين أثر ذلك العنف بأنفسهن. قد أقول للنساء أن يحملن سلاحًا للدفاع عن أنفسهنّ بوجه تسلّط المنظومة الأبوية، ولكن لن يتم سجني أنا كنسوية بدلاً عنهن. قد أقول لإحداهن وهي معنفة من زوجها أن تترك بيتها وتطلق. في النهاية، لو فشلت في الهرب، أو عادت أدراجها، هي من ستتلقى العنف وليس أنا”.
بالتأكيد، لا أختلف مع غدير في طرحها هنا. ولكن أتساءل في هذا السياق، ألا تحتاج النساء أدوات جديدة مختلفة للمقاومة والرفض؟ ما الذي يمكن أن نفعله؟ كيف لنا أن نطور من أدوات هذه المقاومة النسوية بشكل أكثر فاعلية ووضوحًا، في معركة مع الذكورية أثبتت تاريخيًا أنها لن تنتهي؟ أليس من طريق إلى توازنٍ أكبر في هذه المعركة، وتقليص الهوّة الجندرية التي تتباين حسب السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.. إلخ التي توجد فيه؟
المقاومة النسوية وإعادة تعريف “الفعل السياسي”
في هذا السياق، تشير غدير إلى أن “النضال والمقاومة غير مقتصر على الأفعال الظاهرة فقط. فهذه مفاهيم الذكورية عن النضال والحركات الاجتماعية، التي يجب أن يكون لها صدى عام وصدى سياسي، وصدى يستطيع أن يخلق فرق واضح، بمعنى أن يكون علنيًا. أدعم المقاومة الجذرية. ولكني أدعم المقاومة السلسة في السياق العنيف الذي نحن فيه”.
من هنا أشارت إلى ما أسمته في كتابها “خلخلة”، موضحةً أنها عنت به “النضال، والمقاومة، والآليات. وهي الخلخلة القائمة على الوعي الفردي وليس الفرداني، لأنه هنا يوجد تضامن وفعل جماعي، حتى لو تم بشكل غير علني”.
وتابعت: “يقال لنا طوال الوقت أن النضال السياسي والنضال العام هي الأشياء الظاهرة. ولكن النساء لطالما قاومن في المجال الخاص المعزولات فيه، والذي هو نفسه معزول عن المجال العام. كل ذلك بفعل شراكة الأبوية والرأسمالية والنظام السياسي المهيمن، ولا يتم تسميته “نضالاً”. يوجد الآن نساء محبوسات في منازلهن، ولا يقال عنهن “معتقلات”.
بنفس المنظور الأبوي، ماهو الاعتقال؟ هو الزَج في سجون الدولة. والسجن هو تجربة الرجال السياسية في المجال العام. أما نضالات النساء، فيتم تصويرها كتجارب شخصية وخاصة، بمعنى أنها تحدث في المجال الخاص، بمعزلٍ عن الظهور والعلينة كمفاهيمٍ يحتكرها الرجال.
وبالتالي، عندما نقول أننا نريد أن نأخذ المقاومة النسوية ونضعها تحت الضوء، بحيث ينتج عنها نضال عام أو تغيير قانوني مثلًا، أو تغيير اجتماعي “مرئي”، أنا أضعها هنا في نفس الخانة مع معضلة اعتبار النضال الوحيد المعترف به هو النضال العام العلني. وذلك وفق تصنيفات أبوية تعزل كل النضالات التي تحدث على مستوى شخصي وداخل المجال الخاص، وتجرّدها تمامًا من رمزياتها السياسية والتاريخية.
كنسوية أقول لا. فهذا نضال، مثل النضال العلني والمرئي والظاهر. وكونه غير علني وغير مرئي وغير ظاهر، لا ينفي كونه نضالًا سياسيًا تاريخيًا”.
لماذا جمعت غدير أحمد قصص النساء مع الإجهاض؟
تجيب الكاتبة في الفصل الرابع من الكتاب عن هذا السؤال. فهي لم تجمعها بقصد التوثيق، أو تحريك الرأي العام تجاه تجريم الإجهاض في مصر. وليست نيّتها إيصال أصوات هؤلاء النسوة وتجاربهن لصانعي القرار، طمعًا بتكرمهم وإدراك معاناة النساء مع الإجهاض غير الآمن. تخوض في كتابها نضالاً نسويًا بأدواتٍ نسويةٍ توجهها إلى النساء. ليكون كتابها، حسب تعبيرها، أنيسًا لوحشة نساء واجهن خبر حمل غير مرغوبٍ به، حاملة مرآة تعكس لهن فيها تجارب حقيقة. وتمثل بنفسها ما تعتقد به وتقول: “أنا هنا لا أريد أخذ الخاص إلى العام. بل أريد أخذ العام إلى الخاص.
يمكن أن يحدث الحراك الاجتماعي بشكلٍ غير علني وغير ظاهر، وفي المجال الخاص. كل النضالات الشخصية هي أساليب مقاومة ثورية، لأنها لا تحذو حذو تعريف الفعل السياسي بمعناه الكلاسيكي الذكوري الذي نقرأه في النظريات السياسية. وهذه مقاومة سياسية، مهما كانت نتيجتها. وتوقّع أن يكون النضال النسوي جذريًا، يقوّضه ويحجّمه. فالحركات التحررية تأخذ وقتها، لم لا تأخذ الحركة النسوية وقتها؟ فعمرها بالكاد مئتا سنة. هناك حركات تحررية أخذت وقتًا أطول من ذلك بكثير. نحن نحتاج وقتًا، ونحتاج ألا نطبق المعايير الأبوية على أفعال المقاومة النسوية”.
ختامًا، لا أظنني أبالغ أذ أقول، يمكن لكل صفحة من الكتاب، وهي 350 من القطع الكبير، أن تفتح بابًا للبحث وإعادة هيكلة مفاهيم بنيت على أرضية أبوية عبر مئات السنين. وذلك لضمان إيجاد أداة نسوية، وشكلاً من المقاومة والرفض النسوي للهيمنة الأبوية والرأسمالية.