مجتمع الكوير وتقاطع العنف والتمييز .. معاناة مستمرة في كل مكان
يزداد عدد الفئات المهمشة التي تعاني من الاضطهاد والتمييز في العالم بشكلٍ ملحوظ.
لكن مجتمع الكوير أو مجتمع الميم/عين، الذي يضم طيفاً واسعاً من الأفراد من ذوي/ذوات الاتجاهات الجندرية اللامعيارية، يعدّ من أبرز الفئات التي تعاني التهميش والاضطهاد عبر التاريخ الحديث.
فعانى أفراده، وما زلن/وا أشكالاً مختلفة من العنف والتمييز، في ظل المنظومة البطريركية المهيمنة منذ القدم، وفي مختلف المجتمعات.
وقد رفعت منظمة الصحة العالمية عام 1990 المثلية من معجم “الأمراض العقلية”.
وانتشرت الكثير من الدراسات العلمية، التي تؤكد وجود توجهاتٍ جنسية لا معيارية عند الإنسان، كغيره من الكائنات الأخرى.
كما برزت الكثير من الأدلة العلمية والتاريخية على طبيعية التوجهات الجنسية اللامعيارية، وعلى الرغم من ذلك تستمر معاناة الكويريات/يين، حتى في الدول التي أقرت قانونياً حقوقهن/م.
كما تُقابل هذه الدراسات غالباً بالرفض المَرَضي، الذي وصل إلى حد الرُهاب.
لماذا يتم رفض مجتمع الكوير؟
ظهرت دراسات تبحث في تصنيف رهاب المثلية الجنسية (هوموفوبيا)، ورهاب العبور الجنسي (ترانسفوبيا)، ضمن الأمراض المرتبطة بالذهانية.
إذ تسيطر على المصاب/ة أحاسيس الغضب والكراهية، والخوف اللاعقلاني من الأفراد اللامعياريين/ات، ما قد يدفع لارتكاب أفعال عنيفة، تشرعنها القوانين الذكورية التمييزية.
يستند رهاب المثلية والعبور الجنسي إلى منظومة بطريركية، قائمة على المعتقدات والقيم الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية.
منظومة، كرّست خرافة تفوّق الرجال على النساء، وهيمنة الذكور عليهن، والاستبداد بهنّ.
وهمّشت في الوقت نفسه، بقية الهويات الجندرية والجنسية اللامعيارية، التي تُخلخل أساس المنظومة البطريركية، القائم على مبدأ التناسق، أو التناغم المغاير.
بموجب هذا المبدأ، فإن العلاقات الجنسية بين الجنسين هي المعيار الذي يسهل فيه فصل النوعين، وإدراك التمايز في صفات كلٍ منهما، وتفضيل أحدهما على الآخر.
وبالتالي، إضفاء الشرعية على العلاقات الاجتماعية والجنسية، ضمن إطار ثنائي موحّد، يتفوق فيه أحدهما على الآخر، أي الرجال على النساء.
وهو ما تمثله مؤسسة الزواج، وفق المعايير البطريركية السائدة كنموذج “مُقدّس”، يكرّس تقسيم العمل النمطي وتراتبيته القائمة على استغلال النساء وقمعهن.
غير أن النساء المثليات يهددن النظام الذكوري برفضهن الدخول في علاقات مع الرجال. والذكور المثليين يهددون مفهوم “الرجولة”.
وعليه، فإن وجود هويات جندرية لا معيارية، لا يخدم ذلك التناسق الذي تعززه المنظومة الذكورية/الأبوية بأيدلوجياتها الدينية والسياسية، وقيمها التراتبية الهرمية المهيمنة، والقائمة على القوة والسيطرة.
فوجود نساء مثليات يرفضن العلاقات الجنسية مع الرجال، ووجود رجال مثليين، ووجود عابرات وعابرين وأطياف لا معيارية أخرى، تهدد النظام الذكوري ومفاهيم الرجولة الهشة، التي نشأت على العقلية القضيبية.
تجريم المثلية الجنسية
كشفت دراسة استقصائية صادرة عام 2015 عن منظمة إيلغا، وهي منظمة عالمية تُعنى بحقوق أفراد مجتمع الميم/عين في العالم، أن 118 دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، لا تجرّم الممارسات الجنسية المثلية، التي تتم بالتراضي بين البالغات والبالغين في المجال الخاص.
بينما تجرّم 75 دولة العلاقات الجنسية المثلية، وتعتمد 8 دول في العالم في تشريعاتها ونصوصها القانونية عقوبة الإعدام في حالة الممارسات المثلية.
وأشارت الدراسة إلى انتشار ظاهرة قانونية جديدة، تعود أصولها إلى روسيا عام 2006، وتقضي بسنّ قوانين لحظر ما يسمى “البروباغندا المثلية”.
وعلى الرغم من اعتماد هذه القوانين رسمياً من قبل قلةٍ من الدول، لا تتجاوز الـ4، هي الجزائر، نيجيريا، ليتوانيا وروسيا، إلا أن الكثير من الدول تُجيّر قوانينها لصالح خطاب الكراهية والتحريض ضدّ هذه الفئة.
ومن السهولة بمكان اللجوء إلى قوانين الطوارئ، لإطلاق تهمٍ جاهزة، لا تستدعي حتى وجوداً رسمياً لقانون “البروباغندا المثلية”.
تماماً كما فعل وزير الداخلية اللبناني في أيار/مايو الماضي، حين أصدر أوامره لقوى الأمن الداخلي بـ”اتخاذ التدابير اللازمة لمنع إقامة أي احتفال أو لقاء أو تجمّع، يهدف إلى الترويج لهذه الظاهرة”، كما أسماها.
وذلك بعد أن تداول ناشطات/ون في لبنان، على مواقع التواصل الاجتماعي، دعوات للمشاركة في أنشطة عدة، بينها عرض مسرحي، داعمة لمجتمع الكوير.
وكما حدث مع الناشطة الراحلة سارة حجازي في مصر، التي اعتُقلت بعد رفعها علم قوس قزح بتُهم عدة، منها “التحريض على الفسق والفجور”.
وحتى من دون اللجوء إلى “الطوارئ”، يكفي قرار من السلطة التنفيذية لممارسة القمع ضد الكويريين/ات.
يعاني أفراد هذا المجتمع من رهاب المثلية والثنائية والعبور الجنسي، حتى في الدول التي تدعم حقوقهن/م دستورياً وقانونياً.
ويعانين/ون من العنصرية والتمييز، في الإطار العائلي، والفضاء الخاص والعام، والأوساط المهنية والرقمية.
ولا يختلف واقعهن/م في بلدان شرق آسيا وشمال أفريقيا، عن غيره في كثيرٍ من دول العالم.
للأسف، لا تتوفر إحصائيات تعكس حقيقة الانتهاكات، التي يتعرض لها الكويريات والكويريون بهوياتهن/م المتقاطعة، في ظل سيطرة الخطاب السياسي الرجعي المحافظ، وهيمنة الخطاب الديني.
فالاتهامات بالكفر والإلحاد، والتشهير بالسمعة والأخلاق، تجد طريقها دوماً إليهن/م، وإلى المدافعات والمدافعين عن حقوقهن/م.
يضاف إليها التبعات القانونية والنفسية، والنبذ، والاستبعاد، والرفض المجتمعي، والملاحقات القضائية، والحرمان من التمكين، وحق العمل.
كل هذا وأكثر، يشكّل البيئة المحيطة بالأفراد اللامعياريين/ات، ويضع الكثير منهن/م ممن اخترن واختاروا المجاهرة بميولهن/م تحت ضغوطات نفسية واجتماعية واقتصادية كبرى.
بينما يمتنع في المقابل كثير من الأفراد الكويريين/ات عن البوح بتوجهاتهن/م الجندرية.
ما يؤدي إلى المزيد من المشاكل النفسية والاجتماعية الناشئة عن الكبت، في مجتمعاتٍ تعاني أساساً من استبداد السلطات الدكتاتورية.
كما تعاني من هيمنة الأديان على سلوكيات معتنقيها ظاهرياً، وتفشّي النفاق الديني والاجتماعي والأخلاقي.
وغنيٌّ عن البيان، ما تتخذه الأديان كلها، بمذاهبها وطوائفها المختلفة، من موقفٍ سلبيّ موحّد، يرفض التوجهات الجنسية اللامعيارية.
وعلى الرغم من التّستّر المبالغ فيه، لا يَخفى وجود العلاقات والممارسات المثلية واللامعيارية، حتى في أماكن العبادة نفسها (مساجد، كنائس، حلقات دينية).
وإن كان الرد الرسمي على هذه الظواهر المنتشرة بأنها حالات فردية، إلا أن ذلك لا يفضي إلا إلى المزيد من التناقض، ورفض الاعتراف بحقيقة وجود ميول لا معيارية لا بد من الاعتراف بها، والتعامل معها، بدلاً من الاستمرار في إنكارها وتجريمها تاريخياً.
بل إن المبالغة في هذا الإنكار والتستّر، أفضى إلى مزيدٍ من الانتهاكات، التي تمارس ضد الأطفال والطفلات والمراهقين والمراهقات، والبالغين والبالغات.
بالتأكيد لا تقتصر التحديات التي تواجه أفراد المجتمع الكويري على العنف والتمييز، بسبب الميول الجنسية والهوية الجندرية.
فالطبقة الاجتماعية، والدين، والوضع الاقتصادي، ولون البشرة، والعرق أو وجود إعاقة جسدية، أو غير ذلك من هويات متقاطعة، تلعب دوراً كبيراً في مضاعفة معاناتهن/م.
ميشا .. عابرة جنسياً تبحث عن أمانٍ مفقود
ميشا امرأة عابرة جنسياً، لبنانية خريجة صحافة اجتماعية.
عملت سنواتٍ عدة كمدرّبة لمهارات الحياة مع اليونيسف، وتطوعت لتدريس الأطفال والطفلات السوريين/ات اللاجئين/ات في مخيمات لبنان.
وفي حديث لـ”شريكة ولكن”، قالت ميشا، التي تعيش اليوم لاجئة في هولندا: “لم يكن هذا خياراً مُترفاً، إجراء عملية العبور الجنسي لم يكن تسلية. وتناول الهرمونات ليست عمليةً بسيطة”.
وأضافت: “أعاني آثار ذلك يومياً، لكنني أريد أن أكون نفسي. وأن أتصالح مع ما أنا عليه. اكتفيت من شعوري بأنني مذنبة وخاطئة، ومن التفكير بالانتحار، لأن المجتمع علمني أن أكره نفسي، وأخجل بها وأجلدها. لم أعد أستطيع الاستمرار بأن أكون إنسانةً بيني وبين نفسي، وإنسانةً أخرى مع الآخرين/ات”.
كما رأت أن الناس لا يبذلن/ون جهداً لقبولها أو قبول أي إنسان مختلف/ة عن الصورة النمطية المكرّسة في عقول البشر عبر السنين.
وهؤلاء الذين/اللواتي لا يقبلن/ون بوجود هويات جندرية غير ثنائية: امرأة – رجل عبر التاريخ، إذا ذكروهن/م، فيكون من منطلق التجريم والتكفير والذم.
وتحدثت أيضاً عن ضرورة رفع التجريم عن الكويريين/ات، وممارساتهن/م التي تتمّ بالتراضي بين بالغين/ات.
كما ذكّرت بـ”أهمية القوانين، ودورها في حظر التمييز على أساس الميول. وضرورة وقف جرائم الكراهية والتحريض ضد أفراد مجتمع الميم عين بمختلف أطيافهن/م”.
وأكدت في الوقت نفسه “ضرورة رفع الوعي بحقوق الكويريين/ات، والعمل على جعل قضاياهن/م مرئية لحمايتهن/م، حتى في الدوائر الخاصة التي تتستر على الانتهاكات الممارسة بحقهن/م”.
وأوضحت في حديثها أن “القوانين لم تكن هي السبب الأساسي للعنف الذي تعرضت له منذ طفولتي، إنما المنظومة الذكورية، ومنظومة الأخلاق والدين”.
وأصافت: “الخطر الأكبر الذي واجهته لسنواتٍ طويلة من حياتي، كان من قبل أفرادٍ من عائلتي ومن المقربين، خصوصاً من تعرّضتُ من قبلهم للعنف والاغتصاب”.
وروت أنه “من أكثر التناقضات التي واجهتها، أفراد يعانون من الهوموفوبيا أو الترانسفوبيا، لكنهم يغتصبون الكويريين والكويريات. تشريع القوانين اللاتمييزية مهم بالتأكيد لكنه ليس كافياً”.
وتابعت: “لا بد من العمل الحثيث على المزيد من رفع الوعي، وتسليط الضوء على ما يحدث في الزوايا المعتمة في مجتمعاتنا. وفضح جميع الانتهاكات التي تحدث، في الوقت الذي تُرفع فيه الشعارات الأخلاقية المتكاذبة!”.
تكشف تقاطعات هويات ميشا عن مزيدٍ من العنف والتمييز، الذي تتعرض له، حتى بعد هروبها من الخطر الذي يتهدد حياتها في لبنان، ولجوئها إلى هولندا.
المرأة الترانس/ العابرة، اللاجئة، السمراء، وإن كانت في أمان يضمنه لها قانون البلد المضيف، لكنها لم تحظَ بالأمان النفسي بعد.
فهويتها العابرة تتصدر كل لقاءٍ تبحث فيه عن عمل. وهويتها بوصفها لاجئة، تغلق الكثير من الأبواب في وجهها.
وعلى الرغم من إتقانها للغات عدة بطلاقة، وامتلاكها شهادات جامعية، وخبرات تؤهلها للحصول على فرص عمل جيدة، إلا أنها لم تنجح في تحقيق ذلك حتى الآن.
وعلّقت ميشا على هذا الأمر قائلة: “أعرف عشرات النساء العابرات والمثليات والمثليين، اللاجئات واللاجئين وغالبيتهن/م متعلمات ومتعلمين، إلا أن أحداً منهن/م لم يحصل حتى الآن على وظيفة، أو عملٍ ثابت، لأننا محصورون/ات في هويتنا المتنوعة”.
واعتبرت أن “الصورة النمطية المكرّسة حولنا هي أننا غيّرنا هويتنا الجندرية لنحظى بالمزيد من العلاقات الجنسية. وهذا ليس صحيحاً أبداً. لكن استمرار الضغوط تجاه الكويريين/ات، يدفع البعض للاستسلام، والانخراط في العمل الجنسي المتاح دوماً”.
وأضافت: “لذلك نجد بعضهن/م يركّزن ويركزون على مظهرهن/م وجمالهن/م، لأن لا أحد يريد النظر إلى إمكانياتهن/م وقدراتهن/م الأخرى، فيقعن/ون في فخٍ جديدٍ من التمييز والعنف والتنميط ضدهن/م”.
تنشط ميشا سياسياً للمطالبة بحقوق أفراد مجتمع الميم عين، وفي مجموعات تعمل على رفع الوعي الجندري.
وتدعم كل ثورة فردية ومجتمعية لحصول الأفراد على الحقوق الإنسانية المتساوية، من دون تمييز بسبب النوع الاجتماعي، والهوية الجندرية أو الجنسية.
فقد لعب الربيع العربي دوراً كاشفاً، فَضحَ المزيد من الكراهية والعنف ضدّ أفراد مجتمع الميم عين، رغم حضورهن/م بقوة في الحراك السلمي الثوري.
وعلى تقاطع هوياتهن/م، صُدموا وصُدمن بمفاهيم انتقائية ومجتزأة للحرية والحقوق.
فحقوقهن/م كما حقوق النساء، ليست على قائمة المطالب الثورية.
وإن تشجّع البعض، ووضع شيئاً من المطالب النسوية في أجندته، إلا أن الكويريين/ات يبقين/ون مهمشات ومهمشين بالكامل، ويعانين/ون من الإقصاء والتمييز.
وليس من قبل الأنظمة المستبدة فحسب، بل أيضاً من غالبية الممثلين الرسميين للقوى الثورية، الذين يعتبرون أي مطالبة بحقوق هذه الفئات خسارة للمعركة الثورية وانزياحاً عن مبادئها، التي كرست المنظومة الذكورية، لجهة اقتصارها على استبدال سلطة مستبدة بأخرى، تختلف عنها شكلاً، وتتماهى معها في المضمون.
تقول أودري لورد إن “النضال الأحادي القضية وهم. فنحن لا نعيش حيوات أحادية القضية”.
وقضية حقوق الإنسان قضية لا تقبل التجزئة أو الاختزال.
لذا، لا بد من رفع الصوت، وامتلاك الشجاعة للمطالبة بحقوق الجميع في إنسانيته، من دون أي نوع من التمييز والإقصاء والتهميش.
كتابة: علياء أحمد