ثورة على كل شي

كتبت أماني جحا في صحيفة “الشرق” القطرية مقالاً حول الأوضاع في لبنان، حيث وجدت أنّ أموراً كثيرة قد تتغيّر ، لكن الثابت الوحيد فيه هو أن ما قبل 17 تشرين الأول ليس كما بعده، وأن ما ناضل ويناضل لأجله اللبنانيون اليوم سيبقى محفوراً في ذاكرتهم دائماً، وأن التاريخ سيكتب أنهم تدفقوا إلى الساحات وخلعوا عنهم وزر سنوات طوال من اللاعدالة واللا مساواة .

ثورة 17 تشرين وبعد مرور 25 يوماً تقريباً على انطلاقها، أظهرت أن لكل منا ثورته الخاصة ولكل مجموعة مطالبها وعناوينها، لكنك لن تستطيع أن تفصل الخاص عن العام ولن تفرق الساحات ولا المطالب عن بعضها البعض. أنها ثورة على كل شيء.

إحدى المسيرات اللبنانية كانت مسيرة للسيدات تحت شعار “ثورتنا نسوية” انطلقت من المتحف الوطني إلى ساحة الشهداء في العاصمة اللبنانية بيروت. في تلك المسيرة صرخت المشاركات “لن نتعرض للظلم مرتين بعد اليوم” .حق السيدات بإعطاء جنسيتهن لأولادهن كان مطلباً أساسياً في الثورة النسوية، إضافة إلى المطالبة بقانون مدني يحمي النساء من الظلم الاجتماعي والقانوني الذي تتعرضن له من خلال قوانين الأحوال الشخصية التابعة للمحاكم الشرعية المحمية من النظام.

وتابعت أماني جحا في مقالها في “الشرق” تقول الراحلة الشابة نادين الجوني، التي أصبحت أيقونة الكثيرات في الوطن، ألهمت النساء فتصدّرن الحراك اللبناني بأفضل السبل، حتى يُمكن القول إن الثورة اللبنانية، أنثى. تروي زينة عياد، وهي صديقة نادين، والناشطة في المجتمع المدني وجمعيات الدفاع عن حقوق المرأة في لبنان، قصة نادين ونضالها في سبيل الحصول على حضانة طفلها، الذي حرمتها منه قوانين المحكمة الجعفرية في لبنان إلى أن غيّبها الموت الشهر الماضي بحادث سير.

جمع العمل من أجل الدفاع عن حقوق المرأة بين زينة ونادين، تبادلا الثقة والأسرار والأوجاع، رغم تناقض الشخصيتين، فزينة صوتها خافت وهادئة بعكس نادين، إلا أن الصداقة التي ربطتهما، أدت بزينة إلى أن تتعرف على نادين الانسانة التي تظهر دائماً بشخصية متمردة وناقمة وحاضرة، لكنها تخفي ألمها لفراق طفلها. في اليوم الذي سبق الحادث بكت نادين، وكتبت على مواقع التواصل الاجتماعي أنها لم تتمكن من رؤية طفلها كرم، في أول يوم دراسي له، بسبب منعها من حضانته، لكنها عادت في يوم آخر متمسكة بضحكتها المعهودة وفستانها الأحمر الجميل، لتظهر أمام كرم كأجمل أمهات الكون، وقد وعدته أنها لن تيأس من النضال لتعيده إلى حضنها، من دون أن تدرك بأنها كانت تراه للمرة الأخيرة.

تقول زينة: كان صوت نادين يدوي في كل ساحات النضال وأمام المحاكم، صادحة “بدنا حقوقنا”، لم تيأس يوماً ولم تتوانَ في البقاء حاملة صوتها ليصدح داخل المحكمة وأروقتها. اعتمدت هتافات خاصة بها في مختلف التظاهرات وهي الهتافات التي أصبحت اليوم مذيّلة بإسمها، فبشخصيتها العنفوانية المجنونة كانت علامة فارقة تحيا على أمل الاجتماع بابنها كرم يوماً ما.

تضيف زينة: علّمتني نادين أن يعلو صوتي وأن لا أخجل به وأن أعبّر عن نفسي كتابة، ولهذا شاركت في الثورة النسوية، فلو كانت نادين اليوم هنا لكانت قائدة هذه الثورة ومحركتها. وأهم ما تعلمته منها أن لا أندم أبداً على أي قرار أتخذه، ولا أتراجع عنه وأن أتحمّل كل تداعياته بوعي وقوة.

أما علياء عواضة، الناشطة النسوية والعضو في أكثر جمعيات الدفاع عن حقوق النساء في لبنان، فترى بأنه من غير الممكن النظر إلى الموضوع بطريقة محددة، فدور النساء في الشارع اليوم طبيعي، كونهن جزء من هذا المجتمع، ويمارسن حقهن ودورهن في التغيير الحاصل، لأن الثورة الحاصلة اليوم نسوية بإمتياز، وأفقية، ولا قائد لها. لقد عبّر الثوار عن ذلك، رافضين رفضاً قاطعاً افساح المجال لأي شخص بترؤسها، ولا يريدون من أحد أن يمثلهم. تستطيع الثورة إدارة نفسها بمفردهها. لا تريد الثورة اليوم أن تتفاوض مع السلطة، بل تريد منها أن تقدم الحلول، على أن يبقى للثورة الحرية المطلقة في القبول أو الرفض.

تعزو علياء السبب الرئيسي في خلق الوعي للمطالبة بحقوق النساء المهدورة، للجمعيات النسائية وعملهن الدؤوب على مدى عشر سنوات، الذي يكشف بشكل كبير التمييز الحاصل على الصعيدين الاجتماعي والقانوني لدى هذه الفئة من المجتمع. وتضيف: لقد ساهم خلق الوعي بتكوين حضور السيدات وتطوير خطاب حاضر، لتبدأ النساء بالتحدث في كل شيئ: السياسة والمال والفن والشأن العام وغيره.

في لبنان، صعدت النساء على المنابر، علا صوتهن:”ثورة، ثورة”. في الأيام الحالية دائماً ما يكون عصب الشارع أنثى، في تكملة لمسار بدأ في السودان والجزائر ومختلف الدول العربية وصولاً إلى لبنان.

أما بالنسبة للهتافات التي حملتها المظاهرة النسائية، وأهمها قضية نادين الجوني، فتكشف علياء، أن نادين بموتها زرعت قضيتها وقضية مثيلاتها عند معظم السيدات، فأصبحت أيقونة من أيقوناتها، فبقيادتها للحملات المدافعة عن حقها وحقوق الأخريات سمحت للنساء بالتقدم خطوة إلى الأمام. بالتالي تجمع الثورة اللبنانية اليوم مطالب نادين ومثيلاتها مع مطالب الثوار، والمتمحور بقانون مدني موحد وعادل للأحوال الشخصية في لبنان. كلنا اليوم نادين الجوني.

تختم علياء قائلة إن مطالب النسويات اليوم هي جزء من هذا الحراك وليست منفصلة عنه، ويجب أن يؤخذ بها بعين الاعتبار، حتى أنها يجب أن تكون من أولى المطالب اليوم. فإذا أردت بناء مجتمع متكامل متماسك، عليك أن تساوي بين المواطنين وأن تكون عادلاً ومنصفاً وأن تتمتع المرأة كما الرجل بجميع الامتيازات من دون تفرقة.

وعلى الرغم من الظلم الذي تعرضت له، إلا أن نادين قالت لا للنظام الذكوري والأبوي المجحف، فوفاتها بعد يوم واحد على رؤيتها ابنها، حمل عنواناً واحداً “لقد قتل النظام الذكوري والسلطوي نادين مرتين”، إذ لم يكن الحادث وحده من فرّق الام عن طفلها، بل القوانين المجحفة بحقها و حق كرم في أمه .

نادين هي إحدى قصص ثورة 17 تشرين. الثورة التي حملت في داخلها ثورات عدة، ففي كل شارع قصة، وفي كل قصة ألم من نوع آخر. ثورة على الخوف والقهر والألم والفساد والتمييز. بإختصار إنها هي ثورة على كل شيء.

هذه ليست خاتمة المقال بل بدايته، وليست الخواتيم بالنهايات السعيدة أو الحزينة، حتى الموت أحياناً ليس نهاية العمر.

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد