حملات عقاب النساء في الجزائر… مأساة متكررة

في ليلة الاثنين الماضية تعرضت معلمات للاعتداء الجسدي و الجنسي على يد مجموعة شبان مسلحين اقتحموا عليهن المسكن الذي يقطننه والملحق بالمدرسة في ولاية برج باجي مختار في أقصى الجنوب الجزائري. هنا ينتهي الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام و مواقع التواصل الإجتماعي التي شهدت حركة تضامن واسعة و تنديدات و مطالبات بالقصاص و الاعدام، و لم تخلُ أيضا، كالعادة، من إلقاء اللوم على الضحايا و التندر مروراً بالشماتة و محاولات إثبات أنها مجرد جريمة فردية أو أن مرتكبيها لا يمثلون الشعب الجزائري.

لكن هل هي جريمة فردية و استثنائية فعلاً؟ هل يمكننا الاستمرار في التعامل مع الاعتداءات الجنسية و العنف المصاحب لها بمعزل عن العنف اليومي الذي تتعرض له النساء فقط لكونهن نساء؟ و هل من المنطقي أن نتناول هذه القضية دون أن نربط بينها و بين حوادث مشابهة تتكرر بشكلٍ دوري؟

فلنكن واضحات و نستخدم المصطلحات الصحيحة لوصف ماحدث: حملة جماعية لعقاب نساء اخترن العمل خارج البيت وبعيداً عن عائلاتهنّ في مدينة في عمق الصحراء. ربما علينا أن نتوقف عن اعتبار الاغتصاب، خاصة الجماعي، مجرد اعتداء جنسي مرتبط بالكبت أو الحرمان و نضعه في سياقه الحقيقي كأداة من أدوات المنظومة الأبوية التي يتم استخدامها للتهديد و الترهيب أو العقاب و الانتقام. عقاب نساء لم يمتثلن للدور المنوط بهنّ جزئياً أو كلياً، في حالتنا هذه، نساء يعشن بمفردهن و لسن تحت حماية أي رجل، إذا من الممكن اعتبارهن مشاعاً و ملكاً لجميع الرجال. هناك جانب آخر لا يمكننا إغفاله، المعلمات غريبات عن المجتمع القبلي الذي يعشن فيه و لا يمتلكن داخله أية موقع بإمكانه توفير الحماية لهن، إذ أنهن وافدات من مدن أخرى، من الشمال حسب التقارير الصحفية. جرم إضافي اذا أخذنا بعين الاعتبار الفوارق الاجتماعية و الثقافية بين مجتمع الشمال الجزائري ومجتمع الجنوب الأكثر محافظة والذي لا تزال تسوده النزعة القبلية والمنظومة الاخلاقية النابعة منها خاصة فيما يتعلق بالنساء.

لكن، ما الذي يجعل نساء يخاطرن بحياتهنّ و أمانهنّ، و إن كان نسبياً، و يسافرن للعمل في منطقة تبعد عن العاصمة بأكثر من ألفي كيلومتر، على الحدود مع مالي حيث تكثر الاشتباكات و يتلاشى حضور الدولة المركزية و أجهزتها؟ تتحدث الباحثة في علم الاجتماع دليلة إعمران جربال (١)  عن ظهور نوع جديد من الهجرة في الجزائر بداية من التسعينات: هجرة شباب وشابات متعلمين/ات من الشمال للجنوب بحثاً عن فرص عمل، ليست بالضرورة أفضل، لكنَّها على الأقل متوفرة في بيئة بعيدة عن المدن ولا تستطيع توفير يد عاملة مختصة لأسباب متعددة. هناك أيضا الأزمات الاقتصادية المتتالية التي عرفتها الجزائر، و التي جعلت عمل النساء خارج البيت ضرورة لابد منها، و أجبرت المجتمع على التصالح مع الفكرة و تقبلها و لو على مضض و تحت شروط. من ضمن هذه الشروط أن تكون الوظيفة لائقة كمعلمة او طبيبة مثلا. لا يمكن أن نتجاهل أيضا سياسات التعيين التي تتبعها وزارة التعليم حيث تحتكر الوظائف في المدن الكبرى و في الشمال لمن يملكون واسطة ومعارف ذوي علاقات و سلطة.

هكذا إذا، وجدت عشر معلمات أنفسهنّ منفيات في آخر نقطة مأهولة في بلد شاسع، على حدود دائمة الاضطرابات، مضطرات لتأدية واجبهن الوظيفي مقابل راتب هزيل، في مدرسة لا يوجد بها حتى حارس أو فرد أمن وسبق أن تعرّضت مراراً للهجوم و الاعتداءات دون أن يستجيب أحد للبلاغات المتكررة. أعلنت نقابة المعلمين إضراباً عاماً و خرج وزير التعليم ليعلن “تضامنه” مع الضحايا ووجه النائب العام بضرورة فتح تحقيق عاجل في القضية و تحدث الجميع عن الشرف وعن “بناتنا”، ثم نام الجميع و ضمائرهم مرتاحة.  لكن لم يعم الأمن و لا السلام في ربوع الوطن الذي لا يريد أن يحمي مواطناته من العنف اليومي و لا يعترف حتى بمواطنتهن الكاملة. النهاية متوقعة: مسرحية هزلية يختلط فيها الانتقام بالقرارات الاستثنائية، أو الرهان على ذاكرة الشعب السمكية و انطفاء شغفه بمتابعة ما آلت إليه الأمور.

على جانب آخر، لا يمكننا التطرق لهذه الجريمة دون أن نستعيد جرائم سابقة مشابهة، رغم سقوطها من الذاكرة الجمعية، و السياق العام الذي يوجدها بشكل دوري. رغم أن وضع المرأة في المجتمع الجزائري لم يكن أفضل من وضع شقيقاتها في باقي الدول العربية، إلا أنَّه عرف منعطفاً خطيراً منذ الثمانينات، بعد تصاعد خطاب الإسلام السياسي كبديل أوحد لنظام ديكتاتوري يلفظ أنفاسه الأخيرة وغارق في الانقسامات الداخلية والديون الخارجية وفشله الذريع في السيطرة على المجتمع أو حتى إدارته. لكن، مع بداية التسعينات والانقلاب العسكري الذي تسبب في إعلان الجهاد المسلّح أثناء ما يسمى بالعشرية السوداء، تحوّل الخطاب التحريضي لعنف جسدي غير مسبوق يصل حد الاغتيال. الحملات العقابية شملت كلّ امرأة لا تلتزم بالحجاب أو تعمل في وظائف خارج التعليم و الطب، أو تعمل ليلا، ثم توسعت رقعة الممنوعات لتشمل العمل خارج البيت، و توسعت أشكال العنف ليتحول اختطاف النساء واستعبادهن والاغتصاب الجماعي والتعذيب إلى أخبار يومية اعتيادية.

لكن هذا العنف لم يكن استثنائياً، بل وجد بيئة حاضنة في مجتمع أبوي شديد المحافظة، لا تزال فيه العقلية القبلية و الريفية سائدة، ويواجه تغييراً جذرياً في هياكله التقليدية الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية، في ظلّ غياب تام للدولة لأوًل مرة منذ الاستقلال في بداية الستينات. تيار الاسلام السياسي كان حاضراً بشكل مستتر، لكن قوي، في كل طبقات المجتمع و فئاته و شيئاً فشيئاً تمكّن من خلق نظام اجتماعي و اقتصادي موازي قائم على التكافل و المساعدات. ثم سرعان ما قدّم نفسه كبديل “تقدمي” للنظام الحاكم الذي عفا عليه الزمن و ساعده في ذلك أيضاً كوادره الشابة في مقابل الوجوه المكررة لديناصورات الحزب الحاكم و شعار أن العودة للإسلام الصحيح هي الحل في مواجهة الأزمات الاقتصادية والبطالة والفقر والتي كان سببها المباشر فساد الحكم وتوجهه الاشتراكي الكافر. النساء أوّل من دفع ثمن الايديولوجيا الجديدة، حتى و إن كانت القوانين في الأصل قد مهدت لإخضاعهن وإبقائهنّ داخل الفضاء الخاص وتحت سيطرة الرجل في كل الأحوال. لكن، على الأقل، كانت هناك بعض الانفراجات، مثل وصول عدد أكبر من الفتيات للتعليم الجامعي و عدد من النساء لمناصب إدارية أعلى، بالاضافة الى تواجد عدد قليل منهم منذ عقود في النقابات العمالية.

شكّلت المساجد و المؤسسات التعليمية حجر أساس الخطاب التحريضي ضد النساء حيث أحكم عليها تيار الإسلام السياسي قبضته ووجهها نحو شباب يائس من التغيير و من الحياة، يقضي يومه في انتظار حلم الوظيفة و في انتظار حلم الزواج، في الشارع أو في المسجد، في ظل غياب أماكن الترفيه أو الثقافة. و من هنا انطلقت أولى الحملات العقابية و التي استهدفت في البداية النساء اللواتي يعشن بمفردهن أو مع أطفالهن. لتبلغ أوجها مع جريمتي حاسي مسعود في ٢٠٠١ ثم ٢٠١٠. هذه الاخيرة استهدفت مجموعات نساء وحيدات مهاجرات، مطلقات و أرامل و عازبات، يعملن في مدينة حاسي مسعود في جنوب الجزائر، حيث تكثر الشركات متعددة الجنسيات المتخصصة في التنقيب عن النفط والغاز و التي تحتاج ليد عاملة غير متخصصة للقيام بأعمال السكرتاريا و التنظيف، …إلخ.

جميع هذه الجرائم متشابهة: مجموعة من الرجال، بتحريض و إيعاز من إمام المسجد أو أحد اعضاء الجماعات الاسلامية، يهاجمون البيوت و يقومون بإتلاف و سرقة محتوياتها والاعتداء الجسدي والجنسي الوحشي على النساء القاطنات بها. تتشابه أيضا ردود فعل المجتمع : القليل من الاستنكار و الكثير من التبرير و الاتهامات بالانحلال الأخلاقي و مخالفة القواعد العامة الأخلاقية و الدينية. أما النظام، فيكتفي بمحاكمات هزلية يتخللها تهديدات للضحايا و تأكيد على أنهنّ في الأصل مذنبات وساقطات وتواطؤ مع المتهمين رغم الخلاف الأيديولوجي الظاهري معهم و تبرئتهم في النهاية.

بالعودة للاعتداء على المعلمات في الحادثة الأخيرة، ندرك سريعاً أن الجانب الوحيد المختلف هو تعاطف المجتمع هذه المرة مع الضحايا، و إن كان تعاطفاً مشروطاً. ربما لأن المهنة التي يمارسنها “أشرف” بالمقارنة مع مهاجرات حاسي مسعود، و بالإضافة إلى الدخل المادي فهي تصنّف من المهن النبيلة والمتوائمة مع طبيعة النساء. و ربما لأنّ بعضهن متزوجات و إحداهن أم ترافقها طفلتها، و الأخرى تستعد للزواج، فرغم ابتعادهن عن عائلاتن، قسراً، إلا أن العقد الاجتماعي لا يزال قائماً و يحترمنه. أيا كانت الأسباب، فالمجتمع دائماً ينتقي ضحاياه و يوزع تضامنه وتعاطفه حسب درجة اقتراب النساء من المثالية وابتعادهن عن السقوط و العهر. و لعلَّ الصورة التي اختارتها أغلب المواقع لنشرها مع الخبر هي الأكثر تعبيراً عن المعايير الانتقائية للمجتمع ورمزيتها حيث تظهر سجادة صلاة مع أقلام كتابة على الأرض و الكثير من الدماء….

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد