كيف للهندسة اللامركزية أن تنقذ اللاجئات؟

عندما نزور مخيمات اللجوء المنتشرة في كل حدب وصوب، جلّ ما نراه هو كمية الخيم المتلاصقة، ضمن مساحات منقبضة تفصل بين الخيمة والأخرى، يكثر فيها انتشار الأغطية التي تستخدم كفاصل يحمي خصوصية خيمة عن أخرى.

ماذا يعني المشهد الأولي الذي نراه، والذي اعتدنا عليه حول تلك الخيام المكتظة فوق بعضها؟

إنه التصميم التقني المنحاز تاريخياً للرجال. فلماذا لا نرى مخيماً عبارة عن أبنيّة؟ خصوصاً في حال كان النزاع الذي أدى إلى اللجوء ينطوي على مؤشرات الاستمرارية لسنوات كحالة اللجوء السوري!

من هنا علينا أن نسأل أنفسنا أيضاً ماذا تعني المساحة للنساء وما هي قيمة المكان داخل كيانها؟

يمثّل المخيّم المكان الأكثر اكتظاظاً بالفجوات الجندرية، وهي فجوات لم يتم حلّها أو أخذها على محمل الجد. تاريخياً يعد المخيّم مكاناً يمكن نسخه تقنياً ونشره على أطراف المساحات التي تشهد حروباً، كونه يتم إنشاؤه تحت الأثقال التي تفرضها الحروب والاقتلاع الإجباري التي تخضع له فئة معيّنة من الشعوب. إنه المكان الذي صُمِّمَ لمرة واحدة ولم يتم تجديد التصميم أو مراعاة خصوصية المرأة، هذا ما تقوله الوقائع الميدانية.

تاريخ المخيمات: مصممة ضد النساء!

كان مخيم “بريتوريا” الذي شيّده الجيش البريطاني خلال حرب الأنجلو – بوير؛ أوّل مخيم للاجئين. تواجد المخيم بجوار ساحة الحرب، وكان يحتوي على خيام كثيرة جداً التي أوت عائلات جنود أفارقة استسلموا أمام قوة الجيش البريطاني.

كان يفترض أن يوفّر المخيم الأمان لحوالي 10000 إمرأة وعشرات آلاف الأطفال والشيوخ، غير أن القوات البريطانية حاصرت المخيّم، وقطعت عنه موارد الغذاء، وتم رصد جرائم اغتصاب تعرضت لها النساء. هذا الوضع المأساوي أدّى إلى وفاة حوالي 4177 إمرأة، و 22074 طفلا/ة.

لقد كانت النساء أولى ضحايا المخيمات ومازالت إلى يومنا هذا. إن المخيمات هي حلقة موت مستمرة للنساء، كون أماكن تواجد المخيمات يتيح للقوى المتفوقة عسكرياً أن تحولها إلى معسكرات قمع، بالإضافة إلى الشوائب الجمة التي تواجهها المخيمات لناحية التنظيم وانعدام ترشيد استخدام المساحات لصالح الفئات الأكثر عرضة للعنف كالنساء والأطفال.

ومن التاريخ الحديث يمكننا أن نأخذ مخيّم موريا اليوناني مثالاً حيّاً عن وضع النساء اللاجئات في مخيمات تعج بالغرباء. فمخيم “موريا” هو من أكثر المخيمات ذات السمعة السيئة لناحية جودة الحياة المتوفرة للاجئين/ات بحيث لاحظت جهات دولية زيادة العنف ضد النساء فيه، حيث يضم المخيّم حوالي 35 ألف لاجئ/ة، بينهم أكثر من 10 آلاف إمرأة.

في هذا السياق قالت تقارير الأمم المتحدة إن مراكز تفتيش المخيم التابعة للمنظمة الدوليّة، تلقت مئات الطلبات من نساء أردنا مغادرة المكان بعد تعرضهنّ للعنف الدوري والتحرش الجنسي والكلمات النابيّة.

من جهة آخرى، تواجه المخيمات السورية المشاكل نفسها. يمكن التصويب نحو مخيّم واحد موجود في تركيا لديه مقوّمات حياة جيدة بعض الشيء وأحد عوامل ازدهار الحياة في المكان هو استبدال الخيام بالمنازل الحديدية، بالإضافة إلى توفير الإضاءة.

فأن يكون المأوى منضبتاً تقنياً وأقرب إلى الحالة الحضرية للقرن الواحد والعشرين بالإضافة إلى الضوء، هما عاملان تقنيان حاسمان لتوفير شيء من الأمان. إن تنظيم المساحة وتوفير الضوء هما أداتا المرأة لمواجهة الخطر أثناء اللجوء. فالمخيمات السورية في لبنان والتي تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة كانت سبباً لتفعيل مبادرات محليّة ودولية لمكافحة ظاهرة العنف تجاه اللاجئات.

التصاق الخيام.. أرض التحرش

فلنطلب من أي شخص لم يزر مخيماً للاجئين أن يضع تصوراً لشكل المخيم. من المؤكد أنه سيجيب إجابة صحيحة: المخيم عبارة عن خيام متلاصقة ببعضها. تحتل صور النساء واجهة المخيمات.

تعجّ المواقع الإخبارية والصحف بصور نمطية كـ إمرأة تحمل طفلاً على يدها وتقف إلى جانب خيمتها، أو امرأة تجلس في زاوية الخيمة. يمكن إلتقاط صور اللاجئات بسهولة داخل المخيمات لذلك صورهنّ الأكثر انتشاراً عالمياً.

تؤدي المساحة إمّا إلى زيادة التحرش وانعدام الخصوصية أو إلى انعدام الظواهر السيئة هذه. لذلك فإن ما تواجهه النساء داخل المخيمات هو أزمة المساحة، فكلّما ضاقت المساحة على كتلة سكانية ضخمة كلما زادت نسبة التحرش.

تشير عدة دراسات إلى أن النساء اللاجئات يواجهنّ تحرشاً مستمراً داخل المخيمات.
لأن التزاحم يؤدي إلى:
● زيادة نسبة التحرش تجاه النساء
● تدخل الأطراف في شؤون بعضها البعض.
● تمركز العنف ضد الأطراف المستضعفة؛ النساء خصوصاً.
● انعدام الخصوصية (النساء هنّ الفئة الأكثر حساسية تجاه خصوصيتهن في ظل مكان يضج بالغرباء).

في مقالة نشرت على موقع “ميديوم” تستعرض الكاتبة “كوري هيجن” التي خدمت لسنوات كمتطوعة داخل مخيمات اللجوء حول العالم مساوئ انكماش المساحة على حياة القاطنين/ات داخل المخيّم.

وتقدّم في مقالها طرحاً حول كيفية ترشيد المساحة لصالح الأفراد ومن أجل توفير التنظيم المدني. تبني الكاتبة تصوراً ميثالياً لترشيد المساحة.

وضعت كوري هيجن خيام اللاجئين إلى جانب بعضها البعض. لقد حاولت الكاتبة ترشيد المساحة لصالح بناء المزيد من الأماكن الترفيهية والمدارس والجامعات دون النظر بالتحيّز الجندري الواضح فوق المساحة.

إن تصوّر الكاتبة الجديد للمخيمات لناحية توفير مراكز ترفيه وأماكن للتعليم هو تصوّر جيد نسبياً ولكن أن لا تلمس الكاتبة خطورة وجود الخيام إلى جانب بعضها كحالة بشرية تشكل ثقلاً “مركزياً” قاتلاً لمكانة اللاجئة في الوجود هو فهوة بركان من العنف. إن كمية المركزية في مخططها عكست المشكلة الأساسية التي تؤدي إلى تهميش اللاجئات والتساهل بقيمتهن الوجودية.

عبر التاريخ شكل المركز نقطة تبلور لدوامة العنف الممنهج ضد الأطراف المستهدفة أو الأطراف الأكثر عرضة للتهميش والعزل. يؤدي التمركز إلى انعدام الخصوصية، مثال على ذلك تحفيظ الداتا في سيرفر شركة ما، يعرض المستخدمين/ات إلى خرق الخصوصية.

المثال نفسه يمكن تطبيقه على المخيمات، فإن تمركز المنازل بالقرب من بعضها البعض أدى حتماً إلى زيادة نسبة التحرش ويؤدي على الدوام إلى انعدام إحساس اللاجئة بالأمان بعد تلاشي خصوصية حياتها كأنثى.

فلنتخيل مثلاً ما هو حال زوج وزوجة يريدان ممارسة الجنس داخل خيمة! إنها تجربة سيئة جداً!
تشكل الحكومات بثقلها المركزي أزمة للمواطنين/ات الذين/اللواتي يظهرون/ن كأطراف أقل شأناً أمام أجهزة الدولة. المصارف المركزية أيضاً تشكل أزمة لحرية حركة المال بين الأفراد، كذلك الأمر فإن تفرّد السلطة بيد شخص واحد يؤدي إلى أزمات وكوارث إنسانية وحروب.

مخيمات لا مركزية

حالياً تُنفَّذ داخل المخيمات رؤية مركزية تتحكم في العالم حتى الآن. إذ دائماً ما نجد المخيمات هي عبارة عن تكدّس غليظ للقوى البشرية في مكان واحد، إنه نمط وحيد غير تقدمي ويمكن وصفه بالتخلّف في معرفة آلية هندسة الطاقة البشرية بشكل جديد منعاً لأن تتحوّل اللاجئة من خلال هذه الهندسة السيئة إلى معاناة. على العالم جدياً، إذ أراد مد يد العون للاجئات أن يفكر ببناء مخيمات لا مركزية.

لقد كان العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بمثابة حجر عثرة أمام المركزيات عالمياً.
فكرة المركز لا تحكم فقط السلطات والحكومات والجيوش الكلاسيكية بل أيضاً تحكم مفاصل وأشكال تنظيم حياة ضحايا هذه المركزية؛ اللاجئات والمهاجرات والمخيمات على وجه التحديد.

يمكن القول هنا أن تقنية “بلوك تشين” القائمة على تشتيت المركز يمكنها أن تكون مادة ممتازة لإعادة تنظيم العالم تقنياً وهندسياً لصالح اللاجئات. 

فتقوم تقنيّة بلوك تشيّن
● على توزيع البيانات بشكل لا مركزي ضمن شيء نطلق عليه إسم العُقد.
● تعمل العُقد كمخزن لبيانات الأفراد، دون الحاجة إلى تخزينها بأماكن محددة.
● يحول “البلوك تشين” الهاتف الذكي إلى مكان تخزين بيانات كل فرد.
● فلسفة العقد تمنع خرق الخصوصية تقنياً.

إن توزيع البيانات بشكل لا مركزي يمنح الأفراد القوة اللازمة لمواجهة المركز. تمنح اللامركزيات مكانة وجوديّة فاعلة للأفراد.

للآن لم تجر أي محاولة لخلق بيئة اجتماعية لا مركزية،

لقد أتى بلوك تشين كأداة لضرب السلطوية بكافة أوجهها، ومن بين ما يمكن أن يدمره هو السلطة العبثية نحو النساء.

يؤدي تفكيك المركز الأبوي إلى منح اللاجئات خصوصيتهن. لذلك علينا أن نفكر في مخيمات أمنة للنساء كما يظهر في الصورة أدناه:

إن توزيع المخيمات بشكل لا مركزي يمكنه أن يخلق بيئة قائمة على معطيات جديدة:

● تفكك الهندسة اللامركزية والتحكم الأبوي بالمكان، إذ دائماً ما تحتاج السلطة كي تستبد إلى مساندة من كتلة بشرية تسيطر على مساحة جغرافية معيّنة.
● تساعد الهندسة اللامركزية على بلورة تنظيم اجتماعي أكثر جدارة بحماية حقوق جميع الأطراف من خلال ضبط العنف.
● يجعل اللاجئة أقل عرضة للتحرش.
● الهندسة اللامركزية تعزز إحساس اللاجئة بممتلكاتها وعدم مشاركتها مع أحد أو انتهاكها من قبل الآخرين.
● تعمل اللامركزيات على تحسين ثقة المرأة وتمكينها داخل المخيمات.
● تقلص اللامركزيات من العنف لأن العنف الموجّه والمنظم يحتاج إلى طاقة ومجهود بشري كي يبرر تعرض الفئات الضعيفة له.
● تمنع اللامركزيات خرق الخصوصية.
● تمنح اللامركزيات احساس اكثر بالأمان الاجتماعي.

 

كتابة: حلا نصرالله 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد