خالد يوسف لم يرتكب عاراً .. نحن ارتكبنا

أطلَّ المخرج المصري والسياسي خالد يوسف مع الإعلامي عمرو أديب منذ يومين، للمرة الأولى منذ هروبه من مصر عام 2019. .

جاء الهروب الدرامي على خلفية تسريب فيديوهات ومقاطع جنسية يظهر فيها مع عدة نساء قبض عليهن واتهمن بـ”نشر الفسق”. بينما لم يتم توجيه أي اتهامات ضد يوسف وأقصى ما تعرّض له كان طلب إسقاط عضويته من البرلمان المصري.

أُطلق سراح النساء بعد شهورٍ من السجن، ليكتشفنّ سجناً  آخر في انتظارهن: مجتمع لا يتقبل امرأة حُرة في جسدها.

عاد يوسف إلى مصر محملاً بالفخر والوطنية. استقبله الجميع باحتفاء: أبناء بلدته وبعض الشخصيات البارزة. نسي الجميع ما حدث. بسرعة وبغفران يُسامح الرجال وتشنّ الحروب ضد النساء.

مفارقات هزلية

كنت أسبُ وألعن بصوتٍ عالٍ. كأن خالد يوسف وعمرو أديب جالسان أمامي الآن. رجُلان خمسينيان يضحكان ويقهقهان ويرددان تفاهاتٍ حول الوطنية والقيم والأخلاق.

كان في داخلي غضب شديد تجاه ما أسمعه وتجاه ما عانته النساء المتورطات في القضية. فهن دفعن ثمناً لن يدفعه المخرج المصري لأنّه ببساطة رجل صاحب امتيازاتٍ ونفوذ.

تلك الامتيازات جعلته اليوم ضيفاً في أكبر برامج التوك شو. بينما تعُج حسابات منى فاروق بالشتائم على كل صورةٍ شخصيةٍ ترفعها على الإنترنت.

ومنى واحدة من النساء اللاتي ظهرن في الفيديوهات المُسربة. لم تستطع الرجوع إلى مصر لفترة بسبب ملاحقة الناس لها كبطلة “كليب إباحي”. بينما عاد يوسف واستُقبل استقبال الأبطال الشعبيين.

عانت منى من عدم وجود عروض عمل في المجال الفني بعد القضية. في حين يعلن يوسف بفخر أنه منذ عودته التي لم تتجاوز الأسبوع، وعروض العمل تنهال عليه. ثم يقول  جُملته: “لم أرتكب عاراً ”

العار يلاحقنا يا منى

في مجتمعاتنا الأبوية يتواطأ القانون والمجتمع وأصحاب المصالح ضد النساء. يلاحقهن العار  إذا مارسن الجنس. بداية من الدستور الذي ينص صراحةً على أن الأسرة هي نواة المجتمع. والقانون الذي يُجرم كل الأفعال الجنسية الرضائية إذا لم تتم في إطار الزواج وبين أشخاص مُغايري/مُغايرات الجنس. والمجتمع يقوم بدور التأديب إن خرج فرد عن أطر ممارسة الجنس أو حتى المعايير الاجتماعية لسلوكيات الأفراد.

وفيما يتحول الدستور والقانون إلى غطاءٍ قانوني لانتهاك الحياة الخاصة للمواطنين/ات، يتم تمكين أفراد المجتمع ليمتلك كل فرد/جماعة سلطةً على الآخرين بموجب هذا الغطاء.

لنُقرّب الفكرة، تقوم الأسرة بتعنيف النساء والفتيات في حال الشك في سلوكهن وأخلاقهن، بدرجاتٍ تتفاوت من الحبس والضرب المبرح حتى القتل، تحت ما يُسمى “جرائم الشرف”.

كل ذلك يحدث من دون وجود أدنى حماية قانونية للمُتعرضات لهذا العنف داخل نطاق الأسرة. فلا يوجد حتى هذه اللحظة نص قانوني يُجرم العنف الأسري. أما الجيران ومُلاك العقارات، فيقومون بالإبلاغ عن أي شخص يشكون  في سلوكه، خصوصاً لو كانت امرأة وتعيش بمفردها. وأحياناً، يتم اقتحام المسكن وتعنيفها جسدياً وقد يصل الأمر إلى قتلها أيضاً. يسير كل ذلك بالتوازي مع الوصم الاجتماعي الذي يلاحق هؤلاء النساء وعائلاتهن طوال الحياة وبعد الوفاة.

الفضيحة أداة تأديب

ارتبطت أجسام النساء تاريخياً بالشرف وعلّقت عليها مفاهيم فضفاضة وذكورية كالعفّة والطهارة. أُممت من الملكية الفردية للمرأة إلى ملكية خاصة بالرجال.

ومع الحضارات والحداثة، قُيدت تلك الملكية بالأسرة والمجتمع ومؤسسات الدولة. وعوملت أجسام النساء على أنّها مصدر للرذيلة والخطيئة حتى قبل ظهور الأديان السماوية التي اقتبست الفكرة وطوّرت منها.

فالجسد النسائي مرادف للذنب والدَنس. بينما الجسد الرجولي رمز للبطولة والشجاعة. فإذا أُضيف الثاني إلى الأوّل في إطارٍ مقبولٍ اجتماعياً وقانونياً كالزواج والعائلة، نظفه ورفعه.  وفي حال أُضيف الأوّل إلى الثاني في أي إطارٍ آخر، لطّخه ودَنسه.

يرجع ذلك إلى أدوار النساء الإنجابية وحاجة الرجال إلى السيطرة على هذه الأجسام المُنتجة للبشرية.

فلم يكتفوا بالسيطرة العنيفة، بل استحدثوا طرقاً ملتوية تبقي هذه الأجسام وما تنتجه تحت سيطرة الرجال، مثل خرافة الشرف وربطها بالجنسانية.

ارتكزت تلك الخرافة على أن الجسد النسائي الدَنِس بطبيعته يحتاج إلى قوة رجولية عنيفة لتقويمه وتطهيره. أمّا هذه القوة فتمثلت في تقييد جنسانية النساء وممارستهن للجنس فقط داخل إطار الزواج. وأي امرأة تتجرأ على مخالفة القاعدة، تتعرض للعنف والنبذ والوصم هي وعائلتها التي يعتقد أنها فشلت في تقويمها. فيكون التدخل إمّا من الدولة كقوة رجولية مُهيمنة، أو من المجتمع الأكبر الذي يُمارس دور المُراقب على حريات النساء الجنسية.

يصبح الحال إذاً أن هناك نسختين من النساء: الأولى امرأة طاهرة شريفة لا تُمارس الجنس إلاّ في إطاره القانوني والشرعي. والثانية دَنسة لأنّها إما مارست الجنس خارج هذا الإطار ولم تتخلص من الدَنس المرتبط بجسدها، أو فشلت في حماية نفسها منه كأن تكون تعرضت للعنف الجنسي.

في قصة خالد يوسف “الظاهرية”،مارست النساء الجنس خارج إطار الزواج. فتدخلت الدولة بالقبض عليهنّ لتقويم سلوكهنّ وإعادتهنّ مرةً أخرى إلى  الكود الأخلاقي الاجتماعي الذي ينص بوضوح على أن الإطار الوحيد المقبول لممارسة النساء للجنس هو الزواج.

استخدمت الدولة أجسامهنّ للإيقاع بخالد يوسف. فالدولة أو الأب الكبير تعرف جيداً  أن أجسام النساء مُخزية للرجال في هذا السياق. تدخل المجتمع الأكبر، فاستخدم خرافة الطهارة والشرف ليوصم هؤلاء النساء على ممارستهن الجنس.

استخدم مفهوم الفضيحة للعقاب. تُفضح امرأة وتوصَم لتكون عبرةً لكلّ امرأة تُفكر فقط في أن تفعل مثلها. الجميع لا يُريد للنساء أن يُمارسن فاعلية وملكية على أجسامهنّ لأن هذا ما توارثوه عن أجداد أجدادهم الذين احتكروا أجسام النساء كقوة عمل.

اختلفت الأزمنة، واستمر الرجال والمؤسسات الرسمية والاجتماعية في شعورهم بالاستحقاق على أجسام النساء . فهي الطريقة الآمنة للشعور بوهم الرجولة.

الجميع يستخدم كل الأدوات المُمكنة لتكون هذه المرأة العِبرة، آخر مَن يفعل ذلك. ويُلاحقهم الفشل في كلّ مرة. فالنساء يُمارسن الجنس خارج إطار الزواج، شاء هؤلاء أم أبوا.

أتخيّل كيف يكون شعور الرجل المتنمر على منى فاروق. هذا الذي يضع رابطاً لمقطعها على كل صورةٍ تنشرها  على حسابها. هذا المسكين لا يملُك أداة سيطرةٍ عليها. لا يُمكنه تعنيفها جسدياً أو قتلها باسم الشرف؛ فهي ليست من عائلته كما يُحدد القانون هذا النوع من العنف.

هذا الشخص يرعبه أن ما فعلته منى، قد تفعله أخته أو صديقته أو والدته أو زوجته أو قريبته. ويؤرقه أنه لن يكتشف ذلك أبداً، إلا إذا  لعبت الصدفة دوراً. يؤرقه أن إحداهنّ ستتحدى استحقاقه لجسدها يوماً ما. فيصُب كل غضبه على منى. يصب مخاوفه عليها وعلى كل امرأةٍ تهدد شعوره بالرجولة المرتبطة بالعنف والسيطرة.

يخاف منى وكل منى، لأنّها طريقته ليشعر بالأحقية والاستعلاء المزيف للرجال على النساء. في هذه الحال، لا يمكنه إلا التركيز على الأداة الوحيدة المتاحة: الوصم والفضيحة.

خالد يوسف ليس الرجُل الوحيد ولا الأخير

في التسريبات الجنسية، يتم الاحتفاء دائماً بالرجال. وكلّما زاد عدد التسريبات، كلما زاد الاحتفاء والإشارة إلى الرجل  على أنه “عنتيل.” هذه الكلمة المصرية تطلق عادةً على الرجال ذوي العلاقات الجنسية المُتعددة، وتعني الفحولة الجنسيّة. على الرغم من أن ذلك ليس مقياساً على الإطلاق، إلاّ أن الرجال حتى بينهم وبين أقرانهم، يتباهون بعدد مرات ممارستهم للجنس ويتفاخرون بأدائهم الجنسي وبعدد النساء اللواتي مارسوا الجنس معهن.

فالرجال من هذه الفئة يعتبرون الجنس انتصاراً ذكورياً على النساء. إلى هذه الدرجة يحتقرون الجنس ويحتقرون النساء في آنٍ واحد. هذا موروث تاريخي امتد لقرون اعتبر فيها الرجال أن ممارسة الجنس مع النساء سواء بالتراضي أو بالاغتصاب، انتصار لهم.

في أزمة لاعب المُنتخب المصري عمرو وردة والمُتكررة جداً، احتفى به الرجال. وفي أزمة مُدرب الكاراتيه الذي سجّل ممارساته الجنسية مع النساء من دون موافقتهن وتم تسريبها، أُطلق عليه اسم “عنتيل المحلة”.

وبالأمس شاهدتُ مقطعاً لشاب على إنستغرام، يسخر من خالد يوسف لكنّه في الوقت نفسه يُطلق عليه اسم “عنتيل السينما”.

أما النساء، فموصومات ومُلاحقات مهما كان موقعهنّ على سلم الامتيازات. في بداية الألفية الثالثة، انتشرت مقاطع جنسية لراقصة مصرية مشهورة، وأخرى لفنانة لبنانية معروفة. ورغم تداول تلك الفيديوهات حينذاك، إلا أن الاثنتين تعيشان الآن حياةً عادية.

يظن البعض أن ذلك راجع لقدرة النساء على التجاوز. لكنني أُرجعها إلى مواقعهنّ الاجتماعية وعدد الامتيازات التي تمكنهنّ من تخطي أزمات التسريب الجنسي ووصماتها الأخلاقية.

في قضية الفيديوهات الجنسية محل النقاش، لم تتمتع أي من النساء المقبوض عليهنّ ببعض امتيازات الراقصة المصرية والفنانة اللبنانية. وبالطبع كنّ أقل امتيازاً من خالد يوسف. فكان نصيبهنّ من الوصم والعار أكبر من غيرهن. وكان نصيبه من الاحتفاء بقدر امتيازاته وسلطته الاجتماعية وموقعه الطبقي.

لاحقتهن وصمة العار والخزي منذ شباط/فبراير 2019 ، ولم تُلاحق شريكهنّ الجنسي. يُحتفى به ويُستقبل بحفاوة غائب مُنتصر على مجهول. وكان هو بالنذالة الكافية لئلا يرفع عنهن جزءاً من الظلم الذي تعرضن له.

الجميع يتذكّر الفضيحة إذا كانت بطلتها امرأة. والجميع يفخم النذل لو كان رجُلاً.

خالد يوسف هو القصة الحية لكيف يتعامل المجتمع والدولة مع الرجال إذا مارسوا الجنس. وكيف تُعاقب النساء إذا قُمن بالفعل نفسه. فأجسام النساء جالبة للعار بالمفهوم الأبوي. قالها خالد يوسف بملء فمه: “أنا لم أرتكب عاراً”.

نعم، هو لم يرتكب عاراً. فالعار، كل العار واقع علينا نحن النساء. أجسامنا هي العار.

اطمئنوا، تعيد النساء إنتاج العار وتستعدن ملكية أجسامهن. صحيح أنَّنَا ندفع أثماناً باهظة بسبب البُنى الاجتماعية والسياسية التي أرساها الرجال للسيطرة على أجسامنا. لكنَّنَا وفي كل مرةٍ تستعيد امرأةً حقها في جسمها، سنحتفي بها أيضاً. سنُكرر أسماء هؤلاء ونربطها بصراعنا الأكبر حول أحقيتنا في أجسامنا.

 

 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد