الإضراب النسوي.. النسوية في قلب كل المعارك التحررية

شكّل الإضراب النسوي علامةً فارقة في تاريخ النضالات العالمية.

فربط بين مناهضة الاستغلال، والعنف الأبوي، والرأسمالي، والاستعماري. ووضع على الطاولة قضايا جميع الفئات التي تتعرض للاضطهاد والقمع من الأنظمة التي تحوز السلطة والمال.

رغم مشاركة النساء والأشخاص غير المعياريين في الإضرابات عبر التاريخ، إلا أن الإضراب النسوي كفعلٍ سياسيٍّ نسوي انطلق خلال حركة الإضرابات النسوية التي بدأت في بولندا منذ 2016. حيث نظمت أكثر من 100 ألف امرأة إضرابات ومسيرات للاعتراض على حظر الإجهاض، وهو حراكٌ آخذٌ في التصاعد ووصل تأثيره إلى خارج بولندا. فألهم العديد من النسويات عبر العالم وأصبح وسيلةً نضالية فعالة، تضرب الأنظمة الأبوية والرأسمالية بيدٍ من حديد، وتؤسس لانتفاضةٍ نسوية تتخطى ردات الفعل نحو العمل السياسي المنظم.

حركة أممية لتوحيد النضالات النسوية

انتشر الإضراب في أجزاء واسعةٍ من العالم، من تركيا إلى جنوب إفريقيا، فالبيرو والتشيلي، وحتى الأرجنتين وإسبانيا وإيطاليا. ثم امتد إلى عشرات الدول عبر العالم.

واتخذت المحتجات في كل مكان من الشوارع مكاناً للفعل النضالي. فقمن باحتلال المساحات العامة من أجل الإعلان السياسي عن نضالاتهن.

وسرعان ما وصل ذلك إلى المدارس والجامعات وأماكن العمل حتى في أكثر المجالات تأثيراً كقطاعات الترفيه والإعلام. وما كان فعلاً نضالياً في كل بلدٍ على حده، أصبح موعداً نسوياً في كل مكان.

في هذا السياق، تعتبر كل من نانسي فيريزر، وتشينزيا أروتزا، وتثي باتاتشاريا في كتاب “نسوية من أجل 99%” أن “حركة الإضرابات النسوية قد أصبحت قوة أممية قادرة على توحيد النضالات النسوية في كل مكان”. وتوضح أن شعارات الإضراب التي تأسست في أماكن مختلفة مثل “سنوقف القتل”، “نحن مضربات”، “نريد أن نبقى أحياء”، “انتهى الوقت”، “نسوية من أجل 99%”، أصبحت شعارات عالمية تهدف إلى تأسيس نسوية جديدة قادرة على رسم الخريطة السياسية.

قدم الإضراب النسوي مثالاً في قدرة القوى النسوية على صياغة سياساتٍ ونضالاتٍ تستطيع صناعة التاريخ إذا ما تأسست على قيمٍ جذرية.

وتمكنت التنظيمات التي تعمل على الإضرابات النسوية في كل بلدٍ من توحيد جهودها، وجعل الإضراب أممياً وعابراً للحدود.

ففي 8 آذار/ مارس 2017، تأسست حركة الاضراب النسوي العالمي، لتصبح حركة عابرة للحدود تسعى إلى إعادة تسيس يوم النساء العالمي واستعادة الروح النضالية القائمة على المواجهة المباشرة من الأنظمة.

في الإطار ذاته، توضح الكاتبات مدى تأثير الإضراب النسوي المؤسس على قيم نضالية جذرية وتنظيم قاعدي في تغيير خارطة الإضراب نفسها.

وذلك عبر إدخال نوعٍ جديدٍ من السياسة، من خلال الجمع بين الامتناع عن العمل والمظاهرات والمسيرات وإغلاق المنشآت الصغرى وأعمال الحصار والمقاطعة.

كما عملت هذه الموجة الجديدة من الإضراب على دمقرطة الإضرابات، وتوسيع نطاقها من خلال توسيع فهمها للعمل نفسه.

للاعتراف بالعمل المنزلي كعمل

ركزت الإضرابات النسوية على إعادة تعريف مفهوم العمل، ورفضت اقتصاره على العمل مدفوع الأجر. فأُدخل الإضراب إلى المنازل وطال كل ما يتعلق بإعادة الإنتاج، كالعمل المنزلي والجنس والابتسامات.

هذا الفعل السياسي أرجع التاريخ النسوي الذي وسّع فهم إعادة الإنتاج والعمل والصراع الطبقي، عبر إظهار الدور الأساسي للعمل غير مدفوع الأجر الموزع حسب النوع في الأنظمة الرأسمالية.

فلفت الانتباه إلى أن أنشطة الرعاية الاجتماعية التي توكل للنساء حصراً، وتعتبر فعلاً عادياً ومطبعاً بفعل ماكينة دعائية ضخمة، هي أنشطةٌ يستفيد منها رأس المال. إلا أنه بالمقابل، يتعمّد ترك هذه الأعمال غير مقدرة أو مدفوعة.

فالرأسمالية، ولكي تزيح عن عاتقها حمل عاملات/ عمال إضافيات/ين، همشت العمل المنزلي وربطته بـ”الأنوثة” والطبيعة والحب، واستعانت بقرون من الاضطهاد الأبوي والتقسيم المجندِر للعمل.

وحّدت هذه الاضطرابات بين مكان العمل والحياة الخاصة، ورفضت حصر النضالات في مساحاتٍ ضيقةٍ من شأنها أن تهمش فئات واسعة من المتضررات/ين من النظام الأبوي والرأسمالي، وما أنتجه من هجوم عنصري واستعماري مستمر.

ومن خلال إعادة تعريف ما يعتبر “عملاً” ومن يعتبر “عاملاً/ةً”، لا بد من رفض تبخيس الرأسمالية والأبوية لعمل النساء، سواء كان مدفوع الأجر أو غير مدفوع. بالإضافة إلى رفض ابقاء النساء تحت سيطرة الجشع والاستغلال، من خلال استخدام وسيلة الإضراب وشرح أسبابه وربطه بالحياة اليومية لملايين النساء.

الرأسمالية تستغل أوضاع النساء

في عام 2018، أعلنت المضربات عبر الحدود رفضهن وإدانتهن للعنف الرأسمالي الذي يستغل أوضاع النساء، ويفاقم عدم استقرار ظروف عملهن.

وأشرن، في بيان، إلى أشكال هذا العنف مثل طول أيام العمل، وانخفاض الأجور، والتعرض لجميع أنواع المخاطر.

واستنكرن هشاشة العمل المنزلي والرعاية الصحية. هذا العمل الذي هو أساس الحياة البشرية، ويغذي، وينسق، ويعلم ويحمي المجتمعات، وهو بالتالي مساهمة اقتصادية هامة.

لذا، رفضن الإمعان على إبقائه عملاً غير مرئيِّ وبأقل قيمة، وطالبن بالاعتراف بقيمته.

ووفق ذلك، تساءلن عن التقسيم الجنسي للعمل الذي يبالغ في تقدير العمل الاجتماعي المخصص للرجال، عبر إنكار قيمة عمل المرأة.

كيف يمكن للعالم أن ينظر إلى المهام الأساسية للوجود الإنساني، كالطهي والتنظيف، على أنها مهام دونية؟

الإضراب النسوي يوسع مفهوم الصراع الطبقي

تبنّت حركة الاضراب النسوي العالمي رؤيةً شاملةً لما يمكن أن يكون قضايا عمّالية.

فوسعت أفق النظر نحو الانتهاكات الممارسة على العاملات/العمال، ولم تحصرها فقط بالأجور الهزيلة وساعات العمل، بل تناولت أيضاً الاعتداءات الجنسية في أماكن العمل وقيود العدالة الإنجابية وتلك المفروضة على الحق في الإضراب.

وعبر جعل الإضراب نسوياً، قامت المنظمات بإعادة شعار “الشخصي سياسي” إلى حلبة النضال. وسلّطت الضوء على دور الرأسمالية والأبوية معاً في نشر الاستغلال والعنف.

وبالتالي رفضت النظرة الكلاسيكية إلى العنف الأبوي، كعنفٍ معزولٍ عن العنف الاقتصادي وعنف الدولة. وتجاوزت العمل البطيء للنقابات التقليدية التي أصبحت تشكل عبئاً على الحركات المناهضة للرأسمالية.

واستطاع الإضراب النسوي بث روحٍ جديدةٍ في الصراع الطبقي. فربط النسوية بالنضال في وجه الهجوم النيوليبرالي المستمر ضد الرعاية الصحية والمعاشات والتعليم والإسكان العام. واعتبر أن مناهضة العنف الأبوي لن تكون سوى بمناهضة الهجوم على حق النساء في الحياة والموارد والخدمات، وتدمير الكوكب من الصناعات الاستخراجية والاستحواذ على المياه والأراضي وفق استراتيجيات استعمارية مدمرة.

عدسة نسوية تقاطعية

كما ضمّ الإضراب النسوي الجنسانيات، والتعريفات الجندرية اللانمطية. وشمل جميع الشعوب، والأعراق، والفئات العمرية. ورفع قضايا كل المضطهَدات/ين من نظامٍ أبويٍ واستعماريٍ ورأسماليٍ وعنصريٍ.

ودشّنت الإضرابات والتظاهرات المعركة ضد الانقضاض على خدمات الصحة والتعليم والإسكان والنقل وحماية البيئة.

وعليه، أصبحت الإضرابات النسوية محفزاً ونموذجاً لجهود مستندة إلى أسس متنوعة للدفاع عن شعوبنا. كما أسست لنسويةٍ أمميةٍ بيئيةٍ مناهضةٍ للعنصرية و الامبريالية والرأسمالية.

دروس سياسية

قدمت حركة الاضراب النسوي العالمي دروساً سياسيةً مهمة حول التنظيم النسوي، وكيفية العمل نحو تأسيس نضالٍ نسويٍّ جذريٍّ.

فالنظام الأبوي لا يستطيع الاستمرار دون أن يعمل مع أنظمة قمعية أخرى كالرأسمالية والاستعمار.

وقرأت الحركة اضطهاد النساء كعنفٍ له تجليات عدة، منها العنف الأبوي والاقتصادي والعنصري والبيئي وعنف الدولة.

نتيجةً لذلك، قامت بتأسيس نضالاتٍ شاملةٍ تستهدف كل هذه الأنظمة وتتبنى جميع الثورات ضدها. باعتبار أن قضايا النساء متشعبة ولا يوجد نضالٌ واحدٌ ما دامهن لا نعشن قمعاً منفرداً.

وقام الإضراب النسوي أيضاً على فرضية أن أي عملٍ سياسيٍّ قويٍّ يجب أن يقوم على القاعدية والاستمرارية وربط النضالات ببعضها. وانطلق من استهداف الأنظمة في نقاط ضعفها. فالإضراب في المنزل، على سبيل المثال، يعطل الاستغلال المستمر لجهد النساء في العمل الرعائي غير المدفوع وغير المقدر.

فالنساء لن يحققن أي المساواة في كل المجالات، قبل تهديد التقسيم الجندري للعمل في العائلة ورفض استمراره.

كما أن الإضراب في أماكن العمل والدراسة، ونقل المعركة إلى الشوارع، وربط الإضرابات النسوية بالاضرابات العمالية، وعدم التفريق بين العمل المأجور وغير المأجور، هو بث لروحٍ جديدة في الصراع الطبقي. وتدشين مرحلة نضالية يمكن أن يساهم على المدى البعيد في إنشاء حركةٍ نضاليةٍ عابرة للحدود تستطيع أن توحد النضالات، وتعطي أملاً لكل المُضطهدات/ ين بالانتصار على الأنظمة القمعية.

يدعونا الإضراب النسوي إلى التفكير بشهر آذار/ مارس كمناسبةٍ أبعد من أجندة الأنظمة القائم. وأبعد من محاولة تصويرنا على أننا روباتات نتّبع التواريخ دون أن نؤسسها.

لذا، لا بد من أن الاستثمار في التفكير الجماعي، للتأسيس لطرق فعالة للمواجهة السياسية ونبذ الانعزال. وبالتالي التفكير بعملٍ نسويٍّ قاعديٍّ يمكن أن يهدد الأنظمة القمعية لا أن يسليها.

 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد