ناجيات زلزال سوريا يتعرضن للتحرش.. عن أثمانٍ مضاعفة تدفعها النساء داخل المخيمات

في المخيمات ومراكز الإيواء خيم متجاورة لا فاصل بينها. توحي بأن هنا والآن، تصبح المعاناة وجه الحياة الأبرز. طفلات وأطفال يلعبن/ون ببقايا الأنقاض، ونساء يحاولن تقسيم الإمدادات الغذائية على أطفالهن/ طفلاتهن. مشهدٌ ربما يخبرنا بأن الحياة داخل مخيمات ومراكز الإيواء في سوريا، أكبر من مجرد شهيق وزفير يقول أننا ما زلنا على قيدِ الحياة. وربما يفتح مداركنا لنسأل السؤالين الأهم: ما هي الحياة، وكيف هي النجاة؟

تدفع النساء أثمانًا مضاعفة مقارنة بالرجال في وقت الكوارث. إذ تعاني النساء في مراكز الإيواء من انتهاك الخصوصية، وعنفٍ قائم على النوع الاجتماعي، وانعدام وصول المستلزمات النسائية الصحية الضرورية، في مكانٍ يفتقر لمقومات الحياة الإنسانية، ولا توجد فيه آليات إبلاغ عن العنف تجاه النساء.

المخيمات وحياة ما بعد الزلزال

تعيش صباح الرابح- اسم مستعار- (29 عامًا) داخل مركز إيواء حلب. بعدما هدم زلزال سوريا، في السادس من شباط/ فبراير 2023، منزلها هي ووالديها وشقيقها الصغير. وجعلهم/ن يهرولون فجرًا، أملًا في النجاة قبل أن يسقط المنزل تمامًا.

قضت هي وعائلتها عدة أيام في العراء، حتى انتقلت إلى مركز إيواء حلب. “جاءت إحدى المنظمات الحقوقية وبنت لنا خيماتٍ لا وجود لمقومات الحياة الكريمة فيها، كنا نقضي كل حوائجنا داخل الخيمة التي تضم أكثر من عائلة”.

في يومٍ، وأثناء استحمام صباح في خيمتها، وجدت رجلًا يقوم بالنظر إليها من أثقاب في الخيمة ويحاول مدّ يديه ليصل إليها. “صرختُ مذعورة، ولم أستطع الركض لأنني كنت عارية. حتى تكرر الأمر مع أخريات، تعرّضن للتحرش الجسدي والانتهاك داخل المخيم”.

تدفع النساء أثمانًا مضاعفة مقارنة بالرجال في وقت الكوارث. فصباح ليست الناجية الوحيدة التي تعرضت للتحرش داخل خيم الإيواء في سوريا. إذ تعاني النساء هناك من انتهاك الخصوصية، والعنف القائم على النوع الاجتماعي. لا تصل إليهن المستلزمات النسائية الصحية الضرورية، في مكانٍ يفتقر لمقومات الحياة الإنسانية، ولا توجد فيه آليات إبلاغ عن العنف تجاه النساء.

“حين خرجت لأصرخ، لم أجد إغاثة. ردّ البعض بأن ذلك طبيعيًا”.

قبل خمسة أشهر، وقع زلزال في تركيا وسوريا بقوة 7.8 ريختر، أدى إلى وفاة قرابة 50 ألف شخص، ونحو 88 ألف جريح/ة في كلا البلدين. وانهار ما يقارب 1298 منزل وتصدع 11 ألفاً آخرين. وتشرد 2.3 مليون شخص في سوريا التي تعاني من نزاع دام 12 عامًا، وفق تقديرات البنك الدولي.

تحرش وحمامات مشتركة داخل المخيمات

ربما تمرّ مشاهد الزلزال القاسية، باعتيادية مريرة على نساء عايشن الحرب في سوريا، وشهدن تلك المشاهد المروعة، بحسب وصف صباح. لكن انتهاك الأجساد كان الأكثر ألمًا. “حين خرجت لأصرخ، لم أجد إغاثة. ردّ البعض بأن ذلك طبيعيًا”.

لم تشعر صباح بالخصوصية منذ أن خطت داخل خيمة الإيواء، بعدما كانت تقطن منزلًا بمساحة 90 مترًا. “الرجال ينظرون إلى النساء دون خشية. حماماتنا مشتركة، ولا يفصل بين الخيمة والأخرى أيّ عازل. حتى أوقات دوراتنا الشهرية، نستخدم الأقمشة لعدم وجود فوط صحية”.

يعزز ذلك شهادة أخرى من رشا شيخ، صحافية سورية، وهي إحدى الناجيات من الزلزال. حيث كانت تقطن في مدينة سلقين بريف إدلب. وحاليًا، تقطن أمام منزلها المهدّم في مخيم سلقين شمال غرب سوريا. حيث لا وجود لخصوصية النساء، ولا يتوافر فيه أدنى متطلباتهنّ النسائية بحسب وصفها. “تأتي الإمدادات كل فترة، والتي تكون عبارة عن معلبات وأغطية. ولا يوجد فوط صحية للنساء، أو أي مستلزمات تخصهن”.

تسكن النساء مع بعضهن البعض داخل خيم منفصلة عن الرجال، إلا أن خيمهن متهالكة وفق رشا. “الخيمة أصبحت هي المنزل كله، من حمام ومطبخ وغسيل. كما أنها تحوي أكثر من عائلة”.

وعن أوضاع الحمامات، فالنساء والفتيات يستخدمن مراحيض مشتركة مع الرجال، وهي غير كافية من حيث العدد. ولا تراعى فيها خصوصيتهن أو سد احتياجاتهن تجاه النظافة أو الاستحمام. لذلك، تتحمم النساء داخل خيمهن، بينما لا يواجه الرجال الأزمات نفسها.

هناك 49 مركزًا للإيواء في 14 محافظة داخل سوريا، تضم ما يقرب من 23 ألف عائلة، بموجب 55 ألف نازحة/نازح من الزلزال المدمر. بينما هناك 190 ألف نازحة/نازح بلا خيم. إذ تجتاح البلاد الآن أزمة إيواء كبيرة. حوّلت الخيمة إلى حلمٍ لا يصل إليه البعض، وفق الأمم المتحدة.

لا بد من طرق واضحة للتبليغ داخل المخيمات

تؤيد ذلك نصرة الأعرج، المحامية والناشطة الحقوقية وعضوة الهيئة السياسية عن محافظة إدلب. تقول: “النساء مجبرات على تلك الأوضاع، فلا يوجد رقيب داخل المخيمات. لكن الآلية الضرورية لحماية الناجيات من الزلزال من العنف القائم على النوع الاجتماعي تبدأ بالتوعية وإيضاح طرق التبليغ”.

لا تتعرض النساء داخل المخيمات للعنف المباشر فحسب. ولكن يتعرضن أيضًا لعنف غير مباشر مثل الاستغلال، وفق حالات رصدتها الأعرج في مخيمات حلب. “تقع المسؤولية على كاهل النساء وقت الكوارث، خاصةً أن لهن احتياجات مختلفة عن الرجال لا يتم توفيرها. إذ ترى المنظمات الحقوقية ومنظمات المساعدات الإنسانية الدولية إنها رفاهية”.

وثّق “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، منظمة غير حكومية، 29 حالة تحرش جنسي وابتزاز للنساء الناجيات من الزلزال داخل مخيمات شمال غرب إدلب خلال شهرين من وقوع الحادث. وفق ما أخبرنا به رامي عبد الرحمن مدير المرصد، الذي أوضح أن 80% من العائلات النازحة تعيلها النساء.

مدير مركز إيواء إدلب: “رصدنا ثلاث وقائع تحرش بالمخيم”

لا ينكر مديرو المخيمات في سوريا ذلك الأمر. فالإمدادات والمساعدات لا تضم مستلزمات نسائية إطلاقًا، وفق أحمد عبدالله، مدير مركز إيواء في إدلب. حيث أشار إلى أن أوضاع النساء سيئة داخل المخيمات.

يقول: “لا نستطيع توفير الحماية الكاملة للمقيمات في المخيم من نساء وفتيات، لأن المخيم مجرد قماش يضم عددًا من النساء، ولا يوجد سواه للإقامة. وتعتبر بعض المنظمات أن الحديث عن العنف القائم على النوع خلال الوضع الحالي مجرد رفاهيات، واستهتار بما تمر به البلاد من أزمات أخرى”.

وعن وسائل الحماية والتبليغ في حال تعرضت إحدى السوريات إلى العنف، يوضح عبد الله أنه هنالك غيابٌ لهذه المصطلحات داخل المخيمات. وليس هناك طريقة تستطيع النساء الإبلاغ عن وقائع العنف من خلالها.

رصد عبد الله وقائع تحرش جنسي في المخيم الذي يديره بإدلب، وسط عجزٍ وإهمال مقلقين. إذ أشار إلى أنه لم يستطع فعل شيء “سوى تهديد الجناة بالطرد وتحذيرهم”. وتابع: “ليس بيدي شيء. أما اللواتي يبلغن إدارة المخيم عن تعرضهن للتحرش، فلا نستطيع تقديم أي دعم لهن”.

قبل الزلزال، كانت حوالي 7 ملايين امرأة وفتاة سورية بحاجة إلى خدمات صحية ضرورية ودعم ضد العنف الجنسي والجسدي. وهو الأمر الذي يزداد في حالة الطوارئ، كون النساء أكثر عرضة لخطر الاستغلال بحسب منظمة “أكشن إيد”. وهي مؤسسة حقوقية دولية غير حكومية.

في أوقات الكوارث الإنسانية، تُترك الأمور في يدِ الحظ والصدفة، ولو على حساب الحريات الفردية. فالحقوق البديهية التي تفتقدها النساء والفتيات في يومياتهن بفعل التهميش والتطبيع والتواطؤ، ليس غريبًا أن تتحول إلى أمور ثانوية في أوقات الأزمات.

مدير قطاع الإغاثة: “بعض الحالات تمر دون تبليغ بسبب الخوف”

يشدد طاهر النجار، مدير قطاع الإغاثة والتنمية في مؤسسة سوريا للتنمية والإغاثة، على ضرورة إيجاد آلية للتبليغ تحمي الناجيات في الكوارث من العنف القائم على النوع الاجتماعي داخل مراكز الإيواء. “غياب الرقابة الفعلية من الهيئات والمنظمات التي يمكن أن تؤدي دور أكثر فاعلية في حماية النساء من عواقب الكوارث، هو العامل الرئيسي”.

ويوضح: “يجب التوعية بخطورة التحرش أو العنف تجاه النساء. إلى جانب توعية المشرفين على مراكز الإيواء للتبليغ عن حالات العنف، والتعامل مع مرتكبيها على نحو ٍسريعٍ”.

يرجع مدير قطاع الإغاثة السبب إلى أن الكوارث تجعل الناجيات منها يعانين على أكثر من مستوى. إذ يتصور المعتدين أن النساء في هذه الحالة أقل احتمالًا للتبليغ عن مثل هذه الممارسات.

يضيف: “نعلم أن العديد من الحالات المشابهة قد تمر دون تبليغ بسبب الثقافة المجتمعية، ونبذ المجتمع في كثير من الحالات للناجيات من حالات التحرش أو لومهن على الجريمة. حيث يتم وضع مسؤولية الحماية من العنف على النساء اللواتي يتعرضن له. هذا بالإضافة إلى غياب آليات محاسبة للجناة”.

وعن عواقب الأمر، يرى النجار أن هذه الأسباب تعمّق معاناة النساء. إذ يصبحن أكثر عرضة للاستغلال، بالأخص إن كن مُعيلات لأطفال وطفلات. في نفس الوقت، فإن نفض المسؤولين عن إدارة المخيمات أياديهم من مسؤولية منع العنف ضد النساء، لافتٌ للنظر.

فمن خلال هذه الاقتباسات، يتبين أن هناك وعيٌ لدى القائمين على إدارة المخيمات بالمشكلة القائمة. إلا أن الاكتفاء بالإشارة إليها وعدم بذل المجهود في إيجاد حلول وبدائل للقوانين، يجعلنا نتساءل حول جدوى الوعي لو لم يتحول إلى فعلٍ جادٍ.

فمع غياب آليات المحاسبة القانونية، بحسب الوضع الاستثنائي داخل المخيمات، هناك مسؤولية واقعة على عاتق المسؤولين لتوفير سبل محاسبة للمعتدين. إذ أن الاكتفاء بـ”التهديد بالطرد”، ليس أداة ناجعة لوقف الاعتداءات وردع مرتكبيها. كما أن التعويل على غياب القوانين في المخيمات، يخلق ضرورة للتحرك السريع لخلق بدائل فعالة تناهض العنف ضد النساء داخل المخيمات.

مساومات العنف الجنسي داخل المخيّم.. “التحرش مقابل الماء”

التحرش مقابل الماء، هو الثمن نفسه الذي دفعته سهيل القبيسي، سورية وناجية من زلزال شباط/فبراير. تقطن سهيل في أحد مخيمات حلب برفقة ابنها البالغ 6 سنوات. لم يشغل ذهنها منذ أن وقعت الكارثة سوى حماية ابنها والاعتناء به.

تقول: “حين تنفد المياه في الخيمة، نسير بضعة أمتار لملئها من بقعة الإمدادات المزدحمة والمليئة بالرجال. إلا أنني كنت مجبرة على خوض هذا التزاحم في الأوقات التي يحتاج فيها طفلي للمياه”.

في إحدى المرات، شعرت القبيسي بمن يلمس جسدها، و”ما أن التفتت، سار بعيدًا”. تحملت الأمر بألمٍ شديدٍ خشية من أنها لو رفعت صوتها، لن تحصل على المياه.

“تكرر الأمر بعد ذلك عدة مرات، وكأنني أدفع ثمن المياه التي يحتاجها طفلي من انتهاك جسدي. في المرة الثالثة، لم أستطع السكوت وصرخت في وجهه بشدة وسببته. إلا أن مدير المخيم لم يتخذ أي إجراءٍ ضده”.

تجنبًا لانتهاك الجسد مقابل المياه، اضطرت سهيل إلى تتبّع بقعة التوزيع من بعيد، حتى يرحل ذلك الشخص ويتبقّى القليل من المياه. “أقوم وقتها بملء المياه التي يحتاجها طفلي. لكنني لن أنسى ما حدث، والذي لم يكن أخف وطأة من الحرب والزلزال”.

حلب هي أشد المحافظات تضررًا من الزلزال. إذ سجلت 45% من إجمالي الأضرار التقديرية الناجمة عنه. تلتها إدلب بنسبة 37% من الأضرار. ثم محافظة اللاذقية الساحلية بنسبة 11%، بحسب تقارير البنك الدولي.

مبادرات فردية لحماية النساء

دفعت وقائع التحرش المتكررة بالسوريات الناجيات داخل المخيمات، بعض رجال الأعمال في سوريا إلى تدشين مخيمات آمنة للنساء فقط. لكنها لا تتسع للجميع. منها ما قام عليه محمود عفوف، عضو مجلس محافظة حمص ابن الوليد، ومدير شاليهات طرطوس.

يقول: “كان حجم كارثة الزلزال أكبر من أن يتم وصفه بكلماتٍ. فتحت وقتها أبواب 30 شاليهًا مجهزة. وتضم الآن 40 عائلة مجانًا، في وقتٍ بلغ فيه أجر الليلة بالشاليه 25 ألف ليرة. إلا أن ما يحدث للنساء بالمخيمات كارثي”.

يلجأ عفوف إلى خلق آلية حماية، تواكب النهج الأبوي المحافظ، عبر الفصل بين الرجال والنساء لغياب الحلول والبدائل. فهناك حراسٌ على أبواب الشاليهات طوال اليوم، وكل عائلة تسكن بمفردها. والأبواب تغلق على العائلات، كي لا يتسلل الغرباء لمضايقة النساء المقيمات، على حد وصفه.

وتتضمن هذه الآلية “عدم السماح بدخول المشتبه بهم أخلاقيًا، أو أصحاب السوابق”.

يعتبر عفوف أن هذه الآلية هي “الطريقة المتوفرة لتأمين الخصوصية اللازمة للنساء”. مشيرًا إلى وجود “إدارة حرة وصارمة توفر الحماية لهن. لأنني لا أستطيع استقبال أكثر من ذلك العدد”.

ورغم أن هذا النهج لا يضمن تحقيق الحماية المرافقة للعدالة، إلا أن غياب آليات الحماية والإبلاغ عن العنف، أدى إلى أن يكون هو الملاذ الوحيد أمام النساء اللواتي حالفهن الحظ للتواجد في هذه الشاليهات، لا المخيم.

عندما تتحول الحريات الفردية إلى أمورٍ ثانوية

في أوقات الكوارث الإنسانية، تُترك الأمور في يدِ الحظ والصدفة، ولو على حساب الحريات الفردية. فالحقوق البديهية التي تفتقدها النساء والفتيات في يومياتهن بفعل التهميش والتطبيع والتواطؤ، ليس غريبًا أن تتحول إلى أمور ثانوية في أوقات الأزمات، مقارنةً بتوفير أساسيات الحياة، كالمأكل والمشرب والمسكن الآمن.

لا يمكننا تجاهل أن وقائع العنف التي تتعرض لها المقيمات في المخيمات لا يمارسها الغرباء فقط. إذ تتعرض النساء إلى العنف الجنسي والجسدي من أفراد العائلة. وهو ما لن يتم حله بمبدأ الفصل بين الرجال والنساء، أو الغرباء مقابل العائلة. إذ أنه لا سبيل لتوفير الأمان للنساء من العنف إلا من خلال آليات الإبلاغ والمحاسبة التي تضمن تحقيق أبسط مقومات العدالة والأمان للنساء والفتيات.

أسماء النساء الواردة في هذا النص مستعارة، بناءً على طلبهن، وحفاظًا على هويتهن*
قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد