استقلال الجسد من قيود الاقتصاد والسلطة

نحكي اليوم رحلة استقلال مايا. مايا هي واحدة من آلاف النساء اللاتي يحكمهنّ مجتمع أبوي، في ظلّ سلطة تفتقر لتأمين أبسط سبل الحماية لأفرادها. تخلت مايا عن حلمها الكبير بأن تكون في مجال التجميل لا الطبّ، من أجل حريتها واستقلالها المادي. كل يوم نقابل مائة مايا في حياتنا اليومية، في المصعد أو في العمل أو في أي مكان نرتشف فيه فنجان قهوة. 

تحكي مايا (اسم مستعار) قصّتها، وكأنها تعيش الذكريات المؤلمة ذاتها من جديد. في رحلتها، تأخذ الذكريات مايا، كفتاة في الـ 12 عامًا، إنما بجسد امرأة تحمل على عاتقها جبلًا من المسؤوليات. مع إقرارها بالخوف من ذاكرتها وتكرارها له، عن هذا الحِمل، الذي شعرت به 15 عامًا إلى الوراء.

”أُرغمتُ على الحجاب بحجة أن والدتي لن تعود إلى المنزل إن لم أضع الحجاب، حينها كانت أمي تريد الانفصال. جاء والدي لإعلامي بشرط والدتي عليّ، ستعود للمنزل إن ارتديت الحجاب “. تُضيف منكبّة على نفسها، وبشعورٍ مليء بالقسوة تجاه الطفلة، التي أُجبرت على الإحساس بمسؤوليتها تجاه خلاف لا تعرف عنه شيئًا:

”لا يمكنني نسيان مرارة الكلمات التي تفوّه والدي بها، وهو يخبرني بشرط رجوع والدتي. ذلك الغضب الذي خبأته حينها، لا زلت أتعايش معه إلى اليوم. قلتُ لنفسي: ”لا يمكنني الرفض“. خفتُ من رفضي آنذاك.. رفضي لشيء لا أعرف مآله. فماذا لو لم تعُد والدتي بسببي إلى البيت؟”

ففي ظلّ مجتمعٍ أبوي، وغياب القوانين التي تحمي النساء من العنف، تشكّل مسؤولية الحماية الفردية ضيقًا إضافيًا على كاهل النساء.

مساحات خالية من الاستقلال

بعد وفاة أبيها وهي في الـ 14 من عمرها، لعبَ عمّها “دور السلطة والمتسلّط” بحسب قولها، وكأن هذا الدور لا بدّ لأحدٍ ما من أخذه في سيرورة العلاقات ضمن العائلة أو خارجها. وكأن ذلك تجسيدٌ حيٌّ لما جاء في نظرية “الهيمنة الاجتماعية” التسلسلات الهرمية القائمة في المجتمع على النوع الاجتماعي، تمنح دائمًا مزيدًا من السلطة لجنسٍ واحدٍ على غيره. فكيف بتوزيع هذا الدور داخل الأسرة؟

“كان العزاء ما زال قائمًا، وجميعنا مكلومات/ين، حين أتت والدتي وأخبرتني بأن عليّ الزواج من (ش.) الملقّب بـ”النمر”، لأنه ثريّ بحسب قولها. طبعًا، كان جوابي الرفض. فأنا لم أرِد الزواج، بل إنهاء دراستي. كما أن لدي الكثير من الأحلام. وبسبب رفضي، كان نصيبي من التعنيف اللفظي والجسدي كبيرًا.

وكانت ذريعة والدتي هذه المرة أننا “بحاجة إلى رجل يحمينا”، باعتبار ذلك حجّة لدفعي للقبول به، وأنه (النمر) هو الشخص المناسب. ثم ذيّلتها بالعبارة المزعجة: “ومصيرك الزواج”.

أما عن صدمتي الكبرى، فكانت عندما اكتشفتُ أن “العريس اللقطة”، يتعاطى المخدِرات. وعندما أخبرتها بذلك، كان جوابها: “كل رجل لديه ماضٍ، والمرأة “الجيدة”، هي تلك التي تغيّر زوجها إلى الأفضل”. فكما هو معروف في الموروث الشعبوي الذي يجسّد القوة في الجماعة التي تواجدت فيها مايا، أن الحماية تأتي من شخص ذي سلطة ونفوذ.

إنما مايا بقيت على رفضها وبدأت بتعليم التلاميذ في المنزل، رغبةً منها بإقناع والدتها بأنها تستطيع المساعدة ماديًا من دون عائل خارجي. جاء ذلك بعد شدٍ وجذب طويلين.

الاستقلال الاقتصادي.. وبداية الطريق الصعب

“كان تفوقي في الثانوية سببًا رئيسيًا في الحصول على منحة من الجامعة الأميركية في بيروت، وتوالت الصدمات. التي كان أولها عندما قرر عمي أنه “لا يمكنني الالتحاق، لأن أمي ليست مهندسة، وأبي ليس محاميًا”.

“كنت أدّخر من تدريسي للتلاميذ في المنزل، إلى جانب ما ادخرته مسبقًا بالفعل، لأستكمل دراستي في الجامعة اللبنانية”. ذلك أنها الجامعة الوحيدة التي استطاعت مايا تأمين تكاليفها، بالإضافة إلى قربها من مكان سكنها. كان الخوف يعتريها من مغادرة طرابلس إلى بيروت، دون مدخول أو معيل يحميها إذا ما خرجت من منزل أسرتها.

اختارت مايا دراسة اختصاص في مجال الطب، بناءً على المردود المادي الذي يمكن أن يقدمه لها في المستقبل. “درستُ بجدٍ، وكانت مدرستي هي فسحَة الأمل الوحيدة لي آنذاك من سجن البيت. جلّ ما أردته هو الالتحاق بالجامعة، وبناء مستقبل خاص بي. وفكرتُ ببراءة.. أنني أرغب في مساعدة والدتي ماليًا، لترى كم نحن قادرات على حماية أنفسنا من دون رجل”.

وتابعت: “لطالما رغبتُ في أن تساندني طيلة مشواري التعليمي. لكنها، وبإصرارٍ مساوٍ لرغبتي تمامًا، كانت تُلقي باللوم عليً، مهدّدة إياي بالزواج. لا أتذكر تشجيعّا منها قط، في كل مرة حاولتُ فيها الاستقلال ماديًا، والتحرر من هذه السلطة. ثم أتى عمّي، ليعتبر ذلك تحديًا”.

تتحدث مايا عن الخوف والقلق الملازمين لها عندما قررت استكمال دراستها. وتسترجع الصعوبات التي واجهتها حتّى أثناء امتحانات القبول بالجامعة اللبنانية، وكأنه لزامُ لا فراغ منه مع كل قرار، وكل اعتبار لأي حدث. “حذّرني عمي من الخروج من المنزل، مُعللًا أنه لا داعي لتقديم أوراقي إلى الجامعة. لكنني هربت صباحًا بعد خروجه فورًا، حتى أستطيع التقديم”.

تأملات في رحلة الاستقلال

“كنت أرتجف أثناء امتحان القبول، خوفًا من قدومه أو لحاقه بي. وعندما خرجتُ وجدتُ هاتفي مليئًا باتصالاته”، قالت مايا.

و”عندما عاد للاتصال بعد إنهائي الامتحان أجبته وأنا أرتجف، قال لي: كيف تغادرين وقلت لكِ ألا تفعلي؟ لاقيني في مكان عملي. لكنني عدت إلى منزل جدتي الذي احتجزني به آنذاك”.

وتابعت: “عندما عَلم أنني في منزل جدتي، عاد وضربني عندها. وكان ردّ فعل جدتي مطالبتي بالصبر. أما والدتي، فعبارة أنني “بلا ترباية”، هي التي استفزّتها لا غير. قالت لي: مبسوطة؟ خليتيهن يحكوا عليي إني ما بعرف ربّي. لكن برغم كلّ ذلك الخوف أصررتُ على الدراسة، وأخبرته أنني سأتحمل كافة التكاليف. لا أعرف كيف استطعت ذلك. لكنني فعلت”.

”لا أريد أن يقول لي أحدٌ لماذا أعمل، وكيف أضحك، وماذا ألبس”.

وتستطرد عن كيفية قدرتها على تحصيل مردود يكفيها لتحمل تكاليف المواصلات والجامعة. “أول مرة حصلت على راتب مقابل عمل ما كنت في الـ 15 من عمري، 200 ألف ليرة فقط. لكنها كانت من تعبي. كنت أعلّم التلاميذ في المنزل. وحاولت منذ حينها إعالة نفسي، حتى أخفف من السلطة الاقتصادية من جهة، ولأستقل بسلطة اتخاذ قراراتي الشخصية، من جهةٍ أخرى”.

الآن، وهي في الـ 27 من عمرها، لا تزال مايا في رحلة بحثها المستمرة عن نفسها، محاولةً فهم ما كان يحدث وكيف أثّر عليها. فارتأت أن التوجه إلى المعالجات/ين النفسيات/ين قد يساعدها في رحلتها. “قليل من المحاولات، لأفهم نفسي”. مع مُعالجتها النفسية، تحاول مايا فهم تأثير كل ما مرّت به عليها، والسبب وراء ما يقلقها ويخيفها.. يومًا بعد يوم.

بين الطموح والنجاة

عند سؤالها كيف ترى نفسها الآن بعد كلّ هذه الضغوطات التي اختبرتها من أجل الاستقلال تقول: “كيف أرى نفسي؟ لا أعلم حتى الآن. أراني مُرغمة و”مغصوبة”، ومحتاجة إلى شيء ما لا أعلم ماهيته بعد. لكن الأكيد، أنني أعلم أنني لا أريد البقاء في المنزل. أحاول جاهدة الهروب من خلال العمل خارجًا. إلا أنه، ورغم كلّ الوقت الذي أقضيه في العمل، لا أمتلك المال الكافي لكي أستقل مكانيًا عنه. 

تذهب مايا يوميًا إلى المستشفى التي تعمل بها في طرابلس صباحًا، وتعود نحو الساعة الخامسة بعد الظهر إلى منزل أسرتها في باب التبانة. ”لا أريد أن يقول لي أحدٌ لماذا أعمل، وكيف أضحك، وماذا ألبس”. ترى مايا في العمل مساحة تخرج من خلالها من “سجن” منزل أسرتها، فالعمل يؤمن مدخولاً شهريًا بشكل ثابت، يمكّنها اقتصاديًا. وتعرّفها بأن “أكون مستقلة في اتخاذ قراراتي، وإحساسي بمشاعر أريد أن أشعر بها”.

ورغم كلّ التحرش الذي واجهَته من أرباب العمل في المواقع الوظيفية التي شغرتها تقول: “ما زلت أذكّر نفسي بأنني قوية. وبأنني أستطيع حماية نفسي”. ففي ظلّ مجتمعٍ أبوي، تغيب عنه القوانين التي تحمي النساء من العنف، تكون مسؤولية الحماية الفردية ضيقًا إضافيًا على كاهل النساء.

وعن طموحها حاليًا وما تريد فعله، تضيف مايا: “كنت طفلة صغيرة لديها أحلامٌ بريئة. كأن أرتدي الملابس التي أحبها، وأضع المكياج الذي أراه مناسبًا. أرغب بأن يكون لديّ علامة تجارية خاصة بي للمكياج، لكنني أجد صعوبة في ظلّ هذه الأزمة الاقتصادية في البلد”.

رغم أنها درست الطبّ، إلا أن ما تطمح له بعيدٌ كل البعد عن ذلك. وما كان سبب اختيارها لهذا المجال إلا أنها تحتاج إلى مردودٍ مادي يكفيها مستقبلًا. فأصبحت رحلة استقلالها النجاة مما هي فيه، وليس السعي وراء ما تطمح إليه.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد