كيف ننجو.. حربٌ تقام على أجساد السودانيات

تتبادل النساء السودانيات طرقًا فعّالة لمنع الحمل. يتبادر إلى الذهن أن تلك الأحاديث تُجرى ضمن جلسةٍ نسائيةٍ، أو ربما خلال محاضرةٍ عن الحمل غير المخطط له. أو حتى في جدالٍ عشوائي على جروب “واتساب”. إلا أنه خبر متداول يستحق الوقوف عنده.

تبحث السوداينات عن وسائل منع الحمل الطارئة في كومة غبار خلفتها الحرب الحالية. يبحثن عن سبل لمنع الحمل بسبب تعرضهن للاغتصابات العشوائية على يد قوات الدعم السريع. 

في هذه الحالات، وإن لم تتواجد حبوب منع الحمل الطارئة، كيف تتصرف السودانيات؟

ليست السودانيات وحدهن.. جميعنا نتساءل: هل أجسادنا لعنةٌ وعقاب؟

لطالما شكّلت أجساد النساء حالةً جدليةً غير مفهومة. فعلى الرغم من جميع المحاولات في اقتلاع الفكر السائد تجاه النساء من جذوره، ما زالت تلك النظرات الصارخة، والتقاليد المتوارثة، تهدد أمانهن. حتى وهن تحت سقف منازلهن، تستمر تلك المشاهد في ملاحقتهن. صورٌ متكررةً لقتلٍ واغتصابٍ وانتهاك.  

منذ أن اندلعت الحرب بين الجيش الوطني السوداني وقوات الدعم السريع في نيسان/أبريل من العام الحالي، تواجه النساء مصيرًا ذا أطرافًا حادة. فمن تظن منهن أنها نجحت في الفرار من الموت، لاحقها شبحٌ العنف الجنسي.

غولٌ يستبيح أجسادهن، وينقضّ عليهنّ كالمسعور أمام ذويهن، للانتقام أو الإذلال، أو كليهما. ولا يكتفي بذلك فحسب، بل يوثق انتهاكاته ويتفاخر بها، دون أن يترك لهن مخرجًا واحدًا للطوارئ. منفذٌ واحدٌ تستطيع إحداهن من خلاله أن تواسي الأخرى بوجود احتمالية للنجاة.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by Sharika WaLaken (@sharikawalaken)

إما الاغتصاب أو الانتحار.. أين تجد السودانيات النجاة؟

الحديث عن الانتحار في مجتمعاتنا العربية – على وجه الخصوص – يعدّ مساهمةٍ في سكب الزيت على النار، لا سيّما في المجتمعات التي تتميّز بطابعها الدينيّ، فمتى ما طُرحَت فرضية الإنتحار، ترى انقسامًا واضحًا في الآراء، بين معارضٍ ومتعاطف، دون أن يعود أي من الطرفان إلى الأدراج الأولى للحكاية، لمحاولة ردع كل ما يمكنه أن يجعل شخصًا ما على هذه الأرض، يعتقد أن الموت هو النجاة.

كان الانتحار حلًا أخيرًا للعديد من النساء في سوريا، اللواتي تعرضن للاغتصاب خلال الثورة على يد ميليشيات الأسد. استبيحت أجسادهن دون معرفة أعدادهن، ودون التطرق إلى قصصهن بقدرٍ يمنحهن ولو هامشًا في أحداث الثورة السورية. فأصبحن ضحايا مرتين: الأولى عندما واجهن فزّاعة الاغتصاب، وأخرى عندما اضحملّ ذكرهنّ، ثم انعدم.

اليوم، تواجه النساء السودانيات الخطر ذاته. يتعرضن للعنف الجنسي وتُستباح أجسادهن، ولا يسعهن الهامش. إنما صفحات التواصل الاجتماعي، التي شهدت نداءات الاستغاثة والبحث عن وسائل منع الحمل بعد الاغتصاب. 

ربما استطعن منع كارثة ثانية بعد أن وقعت الكارثة الأولى. بعضهن، كالسوريات، يفكرن أن الانتحار أهون من الاغتصاب، وسط جحافل ذكورية تحثهن على الانتحار، بدلًا من أن يقعن ضحايا للاعتداء الجنسي. كما لو أننا لن ننتهي أبدًا من وصم ضحايا/ناجيات العنف الجنسي، بدلًا من الجناة. 

في نفس السياق، تتعالى الأصوات النسوية، مؤكدة أن الاغتصاب لا يُنهي حياة النساء والفتيات. وأنه، وبرغم كل الأهوال، حياتهن مهمة، ونجاتهن أولوية. تنتقد هذه الأصوات ثنائية الموت والاغتصاب، كما لو أنه ليس أمام النساء خيار النجاة. 

الحديث عن التأهيل النفسي للناجيات/الضحايا، يصبح رفاهية في حالة السودانيات اللواتي لا يجدن حتى وسيلة تحميهن من حملٍ قسريٍ يُذكرهن بصدمة العنف الجنسي. 

تعتيم إعلامي على الجرائم ضد السودانيات

شريط “العاجل” الذي يتصدر القنوات الإخبارية، وعادةً ما يكون باللون الأحمر الناصع حتى ينوّه أن أمرًا ما مهمًا يحدث، يضرب بعرض الحائط كل الأخلاقيات الإعلامية. فالأخيرة تنص على ضرورة الإشارة إلى أي انتهاكٍ إنساني بحق المدنيات/ين. 

اليوم، هذا الشريط يغض البصر عن النساء السودانيات، وما يواجهنه من عنفٍ جنسي وجسدي ونفسي. تعتيمٌ إعلامي يُبقي أفواههن وحيدة، واستغاثاتهن بلا استجابة. حتى مَن حاولن/وا مساندتهن على مواقع التواصل، ساهمن/وا دون قصدٍ في تعميق الأثر السلبي للاعتداء.

إذ تم إعادة نشر وتداول مقاطع مصورة للاغتصابات، من ضمنها طفلات، كأداة لفضح الوضع الكارثي في السودان. ولكن في إعادة النشر هذه معضلة أكبر. حيث أنها لا تعيد الصدمة النفسية للاعتداء على المتعرضات له فحسبٍ. ولكنها كذلك تخترق حقوقهن في الخصوصية والسلامة ما بعد الاعتداء.

في الأخير، نعيش في مجتمعاتٍ تصم النساء والفتيات على تعرضهن للعنف الجنسي. وكما شهدنا في هذا السياق وغيره، يتم تمجيد النساء اللواتي يقتلن أنفسهن، بسبب عدم القدرة على تحمل صدمة الاعتداء والوصم واللوم.

لذلك، كان من الأولى أن ينتبه هؤلاء إلى طريقة “الدعم” الملائمة للناجيات أنفسهن. لا أن يتم تنحية حقهن في الخصوصية والأمان، من أجل مناصرة قضية ما، ومهما كانت قضية عادلة. 

السودانيات يبحثن عن وسائل منع الحمل… على الإنترنت

إذا نحينا كل شيء جانبًا، كيف نقرأ بحث السودانيات عن وسائل منع الحمل على الإنترنت؟ فالبحث عن وسيلة لمنع الحمل يُفيد ضمنًا أن الاغتصاب حدث دون وسيلة حماية جنسية من أي نوع. ومع تكرار الشهادات وتواترها حول تعرض السودانيات للاغتصابات العشوائية، فهناك جرس خطر. 

على عكس الشائع، لا تمنع الواقيات الذكرية منع الحمل بنسبة عالية فقط. ولكنها أيضًا تمنع انتقال العدوى والأمراض الجنسية. وتلك تداعيات للعنف الجنسي يلزمها عناية طبية فورية للناجيات/الضحايا، وتلقي الأدوية المناسبة لمنع تطور الاعتداء إلى مرض جنسي مزمن. 

هذا بالتأكيد بجانب الآثار الجسدية للاعتداء، كتهتك جدارات المهبل والشرج وعنق الرحم، أو النزيف. جميعها يلزمها فحص طبي عاجل من أجل سلامة الناجيات. ليكونن بذلك على الأقل لم يخرجن من هذه الصدمة بإصابات جسدية وجنسية قد تؤثر عليهن في المستقبل.

إلا أن استهداف المستشفيات وإغلاق الصيدليات والعيادات نتيجة للنزاع المسلح الحالي، أدى إلى تفاقم الأزمة. فالناجيات/الضحايا لا يستطعن تلقي الرعاية الصحية اللازمة، ولا تلقي جرعات علاج تحميهن من تداعيات الاعتداء الجسدية، بما في ذلك منع الحمل الناتج عن الاغتصاب. وطبعًا، الحديث عن التأهيل النفسي للناجيات/الضحايا، يصبح رفاهية في حالة السودانيات اللواتي لا يجدن حتى وسيلة تحميهن من حملٍ قسريٍ يُذكرهن بصدمة العنف الجنسي. 

 

View this post on Instagram

 

A post shared by Sharika WaLaken (@sharikawalaken)

الإجهاض.. خيار غير متاح أمام السودانيات

في ظل قراءتنا للبحث عن وسيلة منع حمل، ومع علمنا بأن القانون السوداني يجرّم الإجهاض، ماذا يحدث في حالات الحمل الناتج عن اغتصاب؟ لا يمكننا تجاهل أن هذه احتمالية واردة، بل متواترة بشكل جعل السودانيات يبحثن عن وسائل منع الحمل على الإنترنت. هناك احتمالية حتى مع استخدام الواقي الذكري أن يحدث حمل. وذلك لن ينفي بأية صورة أن هذا الحمل ناتج عن اعتداء جنسي واغتصاب. في هذه الحالات، وإن لم تتواجد حبوب منع الحمل الطارئة، كيف تتصرف السودانيات؟

لا مفر من الاعتراف بأن ما يحدث هو انتهاك شامل وعلى عدة أصعدة، بداية من الانتهاك الجسدي والجنسي وحتى منع الرعاية الطبية، ووصولًا إلى الإجهاض غير الآمن الذي قد يعرض حيوات هؤلاء النساء للخطر، في ظل غياب الموارد والعلاج وحتى غرف الطوارئ بالمستشفيات نتيجة الحرب. 

نزوحٌ مهول وإبادة جماعية

بعد مرور ثمانية أشهرٍ على الحرب، وبحسب الإحصائيات، فإن عدد اللاتي/الذين نزحن/وا داخل السودان وخارجها 6 مليون إنسان/ة. فيم ارتفع عدد الضحايا ليصل إلى 10 الآف. كما أن هناك توقف كامل لإمدادات المياه والكهرباء في العديد من المدن. 19 مليون طفل/ة تم حرمانهم/ن من التعليم، بعدما تعرضت المدارس إلى تخريبٍ كلي أو جزئي بنسبة 70%. صاحب هذا التخريب انهيار تام في المنظومة الصحيّة، كانت نتيجته موت الكثيرون/الكثيرات، بعد انقطاع العلاج. 

لا يقتصر الحديث عن ممارسة الإغتصاب على النساء السودانيات والتحرش بهنّ على هذه الحرب فقط. إنما هنالك تاريخٌ حافل من الإنتهاكات الجنسية بحقهن. فعلى سبيل المثال، شكّلت شهادات النساء في إقليم دافور تصورًا واضحًا عن الفظاعات الجنسية الواقعة في حقهنّ منذ عام 2003. من ضمنها، اغتصابٍ وتحرش واختطافاتٍ قسرية. جدير بالذكر أن الإقليم لطالما كان مشتعلًا بالأحداث السياسية والنزاعات المسلحة التي تدفع فيها النساء والفتيات أثمانًا مضاعفة. 

انتهاك شامل وعلى عدة أصعدة، بداية من الانتهاك الجسدي والجنسي وحتى منع الرعاية الطبية، ووصولًا إلى الإجهاض غير الآمن

جدارٌ لا ظل يحميه

تعيش النساء السودانيات أحداثًا شائكة، مع اختفاء شبه كلي لمظاهر الحماية. ورغم كل ما وقع عليهنّ من اضطهادٍ على مرّ العقود، ما زالت الحكومات والمنظمات الدولية متقاعسة عن تلبية مطالبهنّ. لم تسعَ المنظمات وراء تكوين مظلةٍ تهدف إلى الاعتراف بهنّ جزءٍ لا يتجزأ من التكوين السوداني. وأن ما يتعرضن له من انتهاكاتٍ هي الأبشع في سياق جرائم الحرب المرتكبة في السودان. 

حتى هذه اللحظة، النساء في السودان ما زلن يكابدن خسائر وجودهنّ وسط أصواتٍ تمنعهن من أن يقلن لا. وأصواتٌ أخرى تعلو فوق أجسادهن تحت زعم مناصرة القضية السودانية. في المنتصف، تأتي السودانيات اليوم، رافعات الرايات في وجه مَن استباحوا أجسادهن، ومن انتهكوا حقهن في الخصوصية، ومن صمتوا على الجرائم ضدهن. 

على المجتمع الدولي التحرك العاجل والفوري لوقف الانتهاكات الجنسية التي تتعرض لها السودانيات. يجب توفير وسائل منع حمل طارئة، وحبوب الإجهاض الدوائي ضمن المساعدات الإنسانية التي يجب أن يتم إرسالها في أسرع وقتٍ ممكن. 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد