البرامج الرمضانية.. ترفيه بطعم الذكورية والعنصرية

تقوم كبريات المنشآت الإعلامية والدعائية في البلدان الناطقة بالعربية كل عام بالتحضير لشهر رمضان، على اعتباره من أهم المواسم الإعلامية لتحقيق المشاهدات. إذ يتم التنافس على إنتاج وبث المحتوى، خصوصًا في أوقات الإفطار وما بعده. فتُنتج مسلسلات بميزانياتٍ ضخمة، يتسابق النجوم فيها على أدوار البطولة. كما تُنتج برامج ترفيهية ودينية واجتماعية.

بهذه الطريقة، يتحول الشهر إلى مساحة تنافسٍ شرسةٍ بين الإعلام التقليدي (التلفزيون)، والإعلام الرقمي الذي ينتج مئات أو آلاف المقاطع المرئية والمسموعة. ولكن، معظم هذه المقاطع تغرق في القيم الذكورية والعنصرية، وتعتمد على الانتقاص من مجموعة معينة أو التحريض ضدها.

لعب الإعلام منذ عقود دورًا محوريًا في تقديم العنف والإساءة والعنصرية كمواد ترفيهية، وربطها بالحب أو الكوميديا.

الإعلام الأداة الأهم للأنظمة القمعية

يعد الإعلام من أهم أدوات الأنظمة القمعية في حربها ضد الشعوب. إذ يساهم في بناء منظومةٍ فكرية وثقافية تتلاعب بالوعي الجمعي وفق مصالح الأنظمة، وتنشر المعلومات والتاريخ من وجهة نظرها. بالإضافة إلى الاستثمار في القيم الذكورية والعنصرية وتطبيعها، عبر الموسيقى والدراما والسينما والبرامج الحوارية.

ويشكل الإعلام وسيلة هامة للأنظمة القمعية في تمرير روايتها عن القضايا العامة وإعطاء التصريحات والأفكار. لتصبح محطات التلفزيون والجرائد والمواقع أبواقًا تنشر صوتها، وتقمع معارضيها/معارضاتها، وتنشر الأفكار التي تساهم في تجهيل الشعب وتدجينه.

ويندر أن يكون الإعلام مستقلًا عن السلطة دون تعرضٍ للقمع والتنكيل كما يحدث مع الناشطات/ين والصحافيات/ين ومنظمات المجتمع المدني. وترجع أسباب هذا القمع والتنكيل إلى تحديهن/م السلطة ونشر سرديات مخالفة لسردياتها المهيمنة، أو الدفاع عن قضايا المهمشين/ات.

كما لعب الإعلام منذ عقود دورًا محوريًا في تقديم العنف والإساءة والعنصرية كمواد ترفيهية، وربطها بالحب أو الكوميديا. كما طرح الحقوق والقضايا كمواضيع جدلية، تستدعي الرأي والرأي الآخر.

أصبح العنف مادةً بصريةً ومرئيةً،بالإضافة إلى كونه واقعًا يعيشه الناس يوميًا. فلم تعُد مشاهد الدماء حدثًا مرعبًا بل جزءًا من الشريط الاخباري. ويتحول العنف الجنسي والتمييز ضد النساء إلى مادةٍ مضحكة، أو مادة لبرنامج جدلي أو عناوين تجذب المشاهَدات.

أدى هذا إلى ظهور إعلام اللحظة، والذي يفتقر المهنية والحسّ الإنساني، ويعمل وفق أجندة “ما يطلبه/تطلبه المشاهدون/ات”، و “ما يرضي النظام”. علاوة على اختيار المناسبات الاجتماعية والدينية لإنتاج المواد الإعلامية والفنية المسيئة، ويساهم في إحكام المزيد من القمع على الذائقة العامة.

مسلسلات ذكورية لإرضاء الذائقة الأبوية

تعتبر المسلسلات حدثًا ذي محورية هامة خلال شهر رمضان. حيث يحاول صنّاع/صانعات الدراما والسينما تقديم الجديد كل سنة. وجديرٌ بالذِّكر أن تاريخ السينما والدراما حافلٌ بالأعمال التي قدمت المجتمع ومشاكله بطريقةٍ فنية لا تخلو من السياسة. إلا أنها تلاشت لصالح الانسجام مع الرواية الرسمية، التي لا تهدف إلى طرح مشاكل المجتمعات بل إلى ترسيخها.

فمن خلال تتبعنا للمنتوجات الدرامية في رمضان مؤخرًا، لاحظنا عدم قدرة الدراما العربية على الخروج من عباءة التنميط الأبوي والعنصري.

فهناك مسلسلات لا تُحاكي الواقع بقصد تغييره، بل إلى تطبيع كل شروره. فتصبح الذكورية السامة رديفة لشخصية البطل الذي يجب أن يكون عنيفًا ومجسدًا لكل صور الأبوية عن الرجولة. ولا يمرّ أي مشهدٍ درامي دون تصوير النساء بعدسةٍ ذكورية لا تخلو من الضعف والكيد والحاجة إلى الرجال. وطبعًا الخلطة الدرامية لن تكتمل دون “ثقافة الاغتصاب” التي تستخدم التحرش والعنف الجنسي كمادةٍ فكاهية. ولا مانع من السخرية من ذوي البشرة السوداء والمهمشات/ين من حينٍ إلى آخر.

2023 التعدد، التحرش، خطر النسوية… والدراما الذكورية

 إن افتقاد صنّاع/صانعات الدراما في بلداننا إلى حسٍّ إبداعي، وخضوعهم/ن للسلطة، ومراكمة الامتيازات، جعل منتوجاتهم عبارة عن مسلسلات ركيكة. وهذه الركاكة تحاكي الواقع وقيم المجتمع والدولة، وتعتبرها طبيعةً يعجز عن كسرها التمثيل.

في رمضان 2023، واصلت الدراما المصرية ما جسّدته خلال قرون من السلطة الأبوية المستقوية بالنظام السياسي والديني في امتهان كرامة النساء. كما عمدَت إلى السخرية من آلامهن وممارسة جميع أنواع العنف عليهن. فأطلّت علينا الدراما الرمضانية بمجموعةٍ من الأعمال التي أصرّت على تطبيع تعدد الزوجات. وبسبب المعالجات الدرامية السيئة والسطحية، لا يوجد مكان لمعارضة قرارات الرجال التي لا تطرح للنقاش حتى.

في مسلسل “جعفر العمدة”، قدم محمد رمضان شخصية البطل الصعيدي الثري المتدين أحيانًا. وبإضفاء لمحة رومانسية، رأينا كيف يمكن للرجل اتخاذ أربع زوجات، دون أن يكون ذلك محل نقاش. وبمزيدٍ من الذكورية التي لا تخلو من العنف، يتم التطبيع مع آلام النساء.

في مسلسل “الكبير أوي”، يظهر أحمد مكي كعادته بصورة لا تخلو من السخرية الذكورية، حيث يتم تقديم التعدد في قالب كوميدي. قالبٌ ينمّط النساء ويظهر أن مشكلتهن هي بعضهن البعض، وتكمن في الغيرة كـ”طبع” نسائي!

في حين لا يتطرق العمل إلى النقد الساخر من التعدد كـ”حق” مطلق للرجال.

نعم، هذه المسلسلات هي محاكاة واقع ملايين النساء في العالم الإسلامي. ومن خلالها، لا يُقدم التعدد خارج النص، بل بوحي من التشريعات الدينية والقانونية الظالمة بحقهن. إلا أن هذه المحاكاة أيضًا، وبشكلٍ أبوي ذكوري، تؤصّل إلى رؤية النساء في وضعية الذل والخضوع، والرجال في وضعية السلطة المطلقة.

رمضان في السعودية.. استهداف ذكوري للنسويات

أما الدراما السعودية، فكانت على موعد مع عودة المسلسل الشهير “طاش ما طاش”. عودةٌ تناولها مستخدمو/مستخدمات تويتر بأنها الأبرز، لأنها تستعرض مشاكل المجتمع وتقرب المشاهد من الواقع.

تقديم التصور النمطي للنسوية كتنظيمٍ يحاول القضاء على الرجال واضطهادهم، وجعلهم مجرد خدام للنساء!

لكن هذه العودة كانت مستحيلة دون استهدافٍ للنسوية، والذي طبّعه الإعلام السعودي منذ أن وسمها النظام بالـ”خطر”، ووصم النسويات بـ”الإرهابيات”. وهو ما حاول المسلسل طرحه من خلال حلقة عنونها بـ “تنظيم نسائي للسيطرة على الرجال”.

عرضت الحلقة التصور النمطي للنسوية كتنظيم يحاول القضاء على الرجال واضطهادهم وجعلهم مجرد خدام للنساء وعكْس صورة الأدوار الجندرية. وكانت تلك مفارقة عجيبة، لأن التفاصيل التي تم طرحها في الحلقة تُدين النظام الأبوي لا النسوية. فمحاولة شيطنة النسوية ليست جديدةً على الإعلام السعودي، الذي نفذ الأوامر الحكومية في استهداف النسويات وتسخيف مطالبهن وتبرير اعتقالهن.

المسلسل الذي عرف بقرب أبطاله من النظام السعودي، عرض في حلقة أخرى قضية التحرش من وجهة نظر ذكورية بحتة. حيث قدم قوانين التحرش كأداة في يد النساء لابتزاز الرجال المساكين، وأن التحرش ما هو سوى تهمة نسائية. وبواسطة هذه التهمة، تحاول النساء جمع المال وابتزاز الرجال وتشويه سمعتهم.

هذا الخطاب ليس غريبًا على الإعلام الذكوري المرهون بأيدي الأنظمة القمعية. إلا أن تكراره، يبين حجم التخبّط والخوف من النسوية، ومن تغيير المفاهيم المغلوطة عن التحرش، وتوعية النساء والفتيات بحقوقهن وبالاعتداء الجنسي.

الترفيه في رمضان لا يمرّ دون العنصرية و”البلاك فيس”

تعد العنصرية لصيقةً بالترفيه في شهر رمضان. فما بين المسلسلات والبرامج “الكوميدية” أو برامج الكاميرا الخفية، تنتشر ظاهرة الاصطباغ بالأسود black face.

ويشير هذا المصطلح إلى صبغ الوجه أو كامل الجسم باللون الأسود من أشخاص غير سود. يحدث هذا بقصد السخرية، وتقديم صور نمطية ترسخ تحقير ذوي/ذوات البشرة السوداء والأفارقة، واعتبارهم/ن مواد للكوميديا والضحك.

في الإعلام العنصري، يتم تقديم ذوي/ ذوات البشرة السوداء، خصوصًا من الجنسية السودانية، بكثيرٍ من السخرية والتحقير.

وقد انتشر نمط الاصطباغ بالأسود في الإعلام منذ التسعينيات، وارتبط بالدراما والبرامج الرمضانية.

واظب هذا النوع من الإعلام العنصري على تقديم ذوي/ذوات البشرة السوداء، خصوصًا من الجنسية السودانية، بكثيرٍ من السخرية والتحقير. وهي تصورات تعود جذورها إلى العنصرية الراسخة لدى البعض في المجتمعات الناطقة بالعربية ضد السود، وتصويرهم/ن بكل التنمطيات الحاطة بالكرامة.

ورغم التواجد المستمر للممثلين/ات ذوي/ذوات البشرة السوداء، إلا أن الاستعاضة عنهم/ن بـ”الاصطباغ”، يعزّز تهميشهم/ن وإقصائهم/ن. ويرسّخ هذا الإقصاء تقديمهم/ن بطريقةٍ مهينةٍ وعنصرية.

مرةٌ أخرى في مسلسل “طاش ما طاش”، يقدم ناصر القصبي شخصية سودانية ويصبغ وجهه بالأسود. أثار ذلك غضب العديد من ذوي/ذوات البشرة السوداء داخل وخارج السعودية. خصوصًا أن المسلسل دأب على تقديم السودانيين/ات من خلال صبغ شخصيات بالأسود، وربطها بالغباء خلال مواسم عرضه.

لا يتوقف الإعلام، في كلّ موسمٍ رمضاني، عن ترديد الصور النمطية والعنصرية واستخدام الموارد في التطبيع مع العنصرية. رغم الحاجة إلى استخدامها في معالجة هذه الظاهرة المهيكلة المنتشرة في هذه المجتمعات، ويعاني منها الأفراد معاناة جمّة.

رمضان شهر العبادة أم شهر الإساءة؟

يعيش كثيرون/ات في وضعية نفاقٍ كبيرة. فيُرفع في العلن أن رمضان هو شهرٌ روحانيٌّ مخصصٌ للعبادة والتكافل والإحسان. لكن، سرعان ما يتغير ذلك فور مطالعة ما يسلّي المجتمعات خلال هذا الشهر من كل عام.

فيكون العنف ضد النساء والفتيات والعنصرية والإساءة لكل مَن هو خارج تصنيف (أبيض، رجل، غني)، مصدرًا للترفيه.

ما يطرح سؤال: هل رمضان هو شهرٌ ديني، أم شهرٌ يكثّف فيه الإعلام والمؤسسات الدينية والثقافية والمجتمع كل أنواع العنف والأذى وتطبيعها في التلفزيون والمواقع الإلكترونية والواقع؟

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد