في اليوم العالمي للقضاء على العنف الجنسي في مناطق النزاع.. الاغتصاب جريمة حرب

في 19 حزيران/يونيو من كل عام، يُكثف النشر حول العنف الجنسي في مناطق النزاع، وتجدد المطالب للقضاء عليه وتحقيق العدالة للضحايا/الناجيات. 

ورغم أن استخدام العنف الجنسي كسلاح في الحروب والنزاعات المسلحة، قديمٌ بقِدَم التاريخ، لم يتم الاعتراف به كـ”جريمة حرب” إلا عام 2008.

بالنسبة لنا كنساء في الدول الناطقة بالعربية وفي دول الجنوب العالمي، فإن كابوس العنف الجنسي أثناء الحروب والنزاعات متكرر.

فالأنظمة الديكتاتورية والاستعمارية، تستخدم العنف الجنسي كسلاحٍ سياسي واجتماعي ضد النساء والفتيات. وتستند إلى ممارسات اللوم المجتمعي تجاه الناجيات والضحايا لتعميق شعورهن/م بالعار من أجسامهن، وللإفلات من العقاب.

يرجع العنف الجنسي كشكلٍ من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، إلى بنية النظام الأبوي. إذ يتم اعتبار أجساد النساء والأفراد، خاصة من الفئات المهمشة، مصدًا لإنتاج مفاهيم ما يسمى بـ”الشرف”، والخزي، وثقافتي الاغتصاب واللوم. بينما يبقى الجناة في منأى عن المحاسبة.

العنف الجنسي إعلانٌ للحرب على أجساد النساء

يعتبر الاعتداء ذو الطابع الجنسي بشكلٍ عام أحد أخطر الوسائل العنيفة التي تهدف للإذلال والقمع ونشر الرعب. وقد تم استخدامه عبر التاريخ كوسيلة تخويف وإخضاع للنساء والفتيات والأجساد التي تُصنف كـ”آخر” أو كـ”عدو”. وتم التطبيع معه واستخدامه كسلاح حربٍ في النزاعات والحروب.

ويعود استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب إلى تواريخ قديمة منذ سيطرة النظام الأبوي، وتقسيمه للأجساد وفق هرميات جندرية اقتصادية وسياسية.

فمنذ اعتبار أجساد النساء ملكية خاصة، سادت الخطابات وأنواع العنف الرامية إلى التحكم في أجسادهن، التي صُنفت وفق السلطة الأبوية إلى “أشياء” يمكن أن ترفع من يحوز ملكيتها من الرجال أو تذلّه.

هكذا عندما بدأ النظام الأبوي في استخدام العنف الجنسي كأداة لنشر الخوف، استطاع قادة الحروب جعل العنف الجنسي عقيدة ثابتة من عقائد حروبهم.

يمكن للجندي أن ينهب مَن يتم تصنيفهن/م كـ”عدو” ويقتلهن/م. لكن سلاح الاعتداء الجنسي بالنسبة للرجال المنخرطين في “بزنس الحرب”، كان ولا يزال، هو التكيتك الأنجح، من أجل ترويع السكان وتدمير الحياة والاستقرار.

ويراهن المعتدون، خصوصًا في حالات النزاع والحروب، على البنية الأبوية التي تلوم النساء وتحملهن مسؤولية الجرم الواقع عليهن، في ظلّ غياب قيم العدالة والمحاسبة. وبالتالي، يتم نبذ الضحايا/الناجيات، مما يساهم في مزيدٍ من التشتيت والاضطهاد.

لذلك، فالاستخدام الممنهج، والفردي، للاعتداء الجنسي أثناء الحروب يعتبر أداة تدمير وإذلال وقهر. إذ يخلق واقعًا من الرعب والأذى والصدمات. 

الاغتصاب.. جريمة الحرب الأفظع

يرتبط استخدام الاعتداء الجنسي كسلاح حرب، بالبنية الفكرية للنظام الأبوي التي تقدم أجساد النساء كساحات لممارسة السلطة ومعقلًا من معاقلها الأهم. حيث أن سلطة وقوانين النظام الأبوي تدور حول أجساد النساء، لما تُمثله من موقع في تسلسل السلطة.

فالاغتصاب أثناء الحروب والعنف المسلّح هو آلية الهيمنة الأكثر وحشية على الأجساد، ومحاولة السيطرة عليها، وإلحاق الضرر المادي والمعنوي بالآخر الذي يعتبر “عدوًا”. 


ورغم آثاره الفظيعة على الضحايا/الناجيات وعلى المجتمعات ضحية الحرب، إلا أنه لا يزال موضوعًا ثانويًا في نقاشات الحرب وما تخلفه من تدمير مادي ومعنوي على حيوات الأفراد. فغالبية هذه النقاشات تقتصر على القتل والنزوح وتدمير البنى التحتية، والسياسة الخارجية وعرقلة سير رأس المال.

وقد ترك الاعتداء الجنسي في سياقات الحروب والنزاعات المسلحة أذىً ممتدًا عبر الأجيال. وقلّما تم تعويض الناجيات/الضحايا بأي نوع من العدالة أو دمجهن في مساراتها. وذلك لأن تلك المسارات مقتصرة على توقيع اتفاقيات تعود فائدتها حصرًا على المستفيدين من الهرميات الجندرية والطبقية للمتنازعين.

العنف الجنسي في سياق المنطقة الناطقة بالعربية

عرفت المنطقة الناطقة بالعربية استخدام الاعتداء الجنسي كسلاح حرب، وأداة قمع ضد النساء وضد الناشطات أثناء الثورات والاحتجاجات. وربما يصعب حصر فترة تاريخية لبدء هذا العنف بالتشكّل في السياقات السياسية لهذه المنطقة.

لكن مع بدء حركات التحرر من الاستعمار، استخدمت قوات الاحتلال العنف الجنسي ضد النساء الأصلانيات. ولعل أكثر ما تم تدوينه عن هذه الحقبة كان جرائم فرنسا ذات الطابع الجنسي ضد المناضلات والنساء الجزائريات. كما تم توثيق ممارسة النظام الاستعماري الصهيوني للاغتصاب ضد النساء الفلسطينيات.

أبرز هذه التوثيقات، هو ما تصفه سهاد ناصيف عن استخدام الاستعمار الصهيوني للاعتداء الجنسي. تقول: “لطالما كان الاغتصاب والأشكال الأخرى من العنف الجنسي تجاه النساء الفلسطينيات عاملًا من عوامل محاولات الدولة الكولونيالية الاستيطانية لتدمير واستبعاد الفلسطينيات/ين من أراضيهن/م.”

لم يتوارَ الاحتلال المغربي عن استخدامه ضد الثائرات الصحراويات منذ غزوه لأراضيهن 1975، وحتى قضية الاعتداء الجنسي على الناشطة الصحراوية سلطانة خيا في 2021. حيث راهن الاحتلال المغربي لسنوات على الثقافة الأبوية التي تتبع الصمت على هذه الاعتداءات. وهو ما غيّب توثيقًا جادًا لهذه الجرائم، والتي لا تقل انتهاكاً عن جرائم الابادة الممنهجة ضد الشعب الصحراوي.

وقد تصاعد استخدام الاعتداءات الجنسية كوسيلة تعذيب سياسي في السنوات الماضية. خصوصًا بعد الاحتجاجات الشعبية التي تم تسميتها من الأكاديمية الغربية باسم “الربيع العربي”. حيث ظهر العنف الجنسي كسلاح ضد النساء بشكل مكثف في ليبيا وسوريا واليمن ومصر وتونس.

وتحكي شهادات النساء السوريات الناجيات من معتقلات بشار الأسد الرهيبة، عن استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب ضدهن. حيث مورست بحقهنّ انتهاكات جنسية، منها الاغتصاب والتحرش والتعذيب بالعنف الجنسي.

وكان استخدام الاعتداء الجنسي بشكل انتقامي ضد السوريات من نظام الأسد، رهانًا أبويًا بامتياز. إذ تعرضت الناجيات/الضحايا بعد خروجهن من السجن لوصمة ذكورية من المجتمع والعائلة. كما تعرّضن إلى العزل الاجتماعي الذي كان له أثر بليغ في مراكمة الأذى عليهن.

الحرب في السودان حرب على أجساد النساء والفتيات

في سياقٍ مشابه، كانت الحرب في السودان استكمالًا لعقود من استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب ضد النساء والفتيات. إذ تم تسجيل عشرات الحالات لجرائم اغتصاب طالت نساءً وفتيات قاصرات على يد مليشيا الجنجويد.

وقد ظهرت هذه القضايا بعد اقتحام قوات الدعم السريع للمنازل واستخدام الاعتداء الجنسي ضد النساء والفتيات. ولم تسلم نقاط التفتيش والشوارع من الممارسات الإجرامية ذاتها.

وليست هذه الجريمة بجديدة على مليشيات الدعم السريع. فقد استخدمها الجيش السوداني أثناء حرب النظام السابق على منطقة دارفور. وسجلت تلك الفترة تصاعدًا في وتيرة العنف الجنسي ضد النساء والقاصرات، بمعدلات وصلت لأعداد مروعة لم تنل ضحاياها العدالة حتى اليوم.

لا نهاية للعنف الجنسي في الحروب دون نهاية النظام الأبوي

لا يمكن فصل استخدام الاعتداء الجنسي في النزاعات والحروب عن استخدامه في الواقع اليومي للمجتمعات الأبوية. فالاعتداء الجنسي يعد وباءً اجتماعيًا وسياسيًا نشره النظام الأبوي وكرّس وجوده. وتصالحت معه المجتمعات وتحيّزت ضد ضحاياه بشكل عدائي، بدلًا من محاسبة الجناة وإدانتهم.

وهذا ما يجعل معالجة هذا الإجرام الممنهج، دون وقفة حقيقية ضد النظام الأبوي وثقافة الاغتصاب، مستحيلة.

لذلك، نعتقد أن أيّة وقفة جادة بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف الجنسي أثناء النزاعات المسلحة، لن تحقق مسعاها إلا بالاعتراف بأن الفكر الأبوي في الأنظمة السياسية والاجتماعية هو السبب الرئيسي.

وكذلك بالاعتراف الاجتماعي والسياسي بأن العنف الجنسي في سياق الحروب، لا يقلّ فداحة عن استخدام الأسلحة النووية والكيميائية. فالاعتداء الجنسي جريمة حرب، وجريمة ضد الإنسانية، يجب محاسبة كل مَن مارسها، ولا يجب أن يتم إسقاطها بالتقادم.

نواصل النضال لأجل عالمٍ آمن للنساء والفتيات ولجميع أفراد المجتمع، بدافع التزامنا النسوي. ونحن واعيات أن تحقيق ذلك يستدعي نضالًا ضد النظام الأبوي ومواجهة ثقافته العنيفة. وعلى رأسها ثقافتا الاغتصاب واللوم المتجذرتان في الوعي الجمعي والسياسي.

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد