الأدب والسلطة والسياسات الجنسية عند “كيت ميليت”

سُجل كتاب “السياسات الجنسية” (1970)، للكاتبة والناشطة النسوية الأميركية كيت ميليت، كأحد البيانات التأسيسية في النسوية. ذلك أنها قدمت فيه تفكيكًا للنظام الأبوي كسلطة سياسية واجتماعية وتجليات الهيمنة الذكورية في الأدب والفن، وربط الشخصي بالسياسي.

كان الأساس التحليلي للسياسات الجنسية هو تقديم فهمٍ أفضل للسلطة الأبوية. فقد طوّرت ميليت فكرة أن الرجال لديهم سلطة مؤسساتية على النساء، وأن هذه القوة مبنية بناءً اجتماعيًا، على عكس ما تصوّره الأبوية بأنها حتمية بيولوجية أو فطرية.

يبحث الكتاب في الطرق المختلفة التي أدّت بها الأدوار التقليدية للنساء والرجال إلى تقويض قوة النساء وأدوارهن في المجتمع. بالإضافة إلى تحليل استخدم الرجال الزواج، وبنية الأسرة، والتمييز الاقتصادي، والعلاقات الجنسية الغيرية بغية منع النساء من تحقيق إمكاناتهن الحقيقية.

ساعد نقدها للنظام الأبوي وأفكارها حول النسوية، والتي كانت تعتبر راديكالية عند نشرها لأول مرة، في بناء أساسات النظريات النسوية. كما ساهم في تأسيس حركة النقد النسوي للأطر الثقافية والفنية.

كانت مساهمة كيت ميليت في التنظير عن النظام الأبوي تركز على فهم البناء والعلاقات الجندرية بصفتها بنية سلطوية راسخة بعمقٍ ولها آثار سياسية مدمجة في داخلها.

الأدب والفن معاقل السلطة الأبوية

ساهمت كاثرين موراي ميليت (1934- 2017) في تأسيس النقد النسوي للأدب.

وكانت من أوائل المنظّرات اللواتي درسن العلاقة بين صورة النساء في الأدب والذكورية والعنف الأبوي. وذلك بتحديد الأدب كأداة للأيديولوجية السياسية، لأنه أعاد خلق عدم المساواة وعزز القيم الأبوية في المجتمع.

وقدمت ميليت في كتابها “السياسات الجنسية” نقدًا لأعمال أربعة من أبرز كتاب القرن العشرين في الأدب الإنكليزي، مثل هنري ميلر ونورمان مايلر وديفيد لورانس. كاشفةً أن الاحتفاء الدائم بهم ينبع من مساهمة هؤلاء الكتّاب في إضفاء الشاعرية على السلطة الذكورية والاحتفال بالنشاط الجنسي الذكوري. بينما ركزوا على تصوير النساء من منظور ميسوجيني.

بالنسبة لها، فإن أعمال المؤلفين الرجال بعدسةٍ نسويةٍ لم يقدموا سوى المزيد من تطبيع كراهية النساء وثقافة الاغتصاب. بينما كان هنالك إبداع أقل، مما جعلها تستغرب من الاحتفاء المبالغ بهم، إذ لم تكن مؤلفاتهم تساعد على وعي ثقافي أو أدبي من أي نوع. ولم تكن سوى دليل على التحيز الذكوري الواضح في الكتب الأدبية التي احتفي بها كواجهة للأدب والإنتاج الثقافي.

الأدب، هو أيضًا، أداة تستخدمها السلطة الأبوية لتساعدها على نشر فكرة خضوع النساء ودونيتهن. فإن المؤلفين الرجال في أعمالهم صوروا النساء عن قصدٍ وبغير قصدٍ بأنهن كائنات أدنى.

السلطة المتجذرة في سياسات الأدب الجنسية

صاغت كيت في هذا الطرح فكرةً جديدة، وهي أننا قادرات على تفسير الأدب في ضوء دينامياته الجنسانية. حيث أن الأدب المتسم بطابع ذكوري يقدم الجنس كعلاقات قوى وسلطة لشخصٍ على آخر.

وجادلت في كتابها بأن الأدب، هو أيضًا، أداة تستخدمها السلطة الأبوية لتساعدها على نشر فكرة خضوع النساء ودونيتهن. وذلك من خلال إعادة سرد أسطورة تفوق الرجال، مرارًا وتكرارًا، حتى تصبح متأصلة بعمق في الوعي الجمعي.

ووفقاً لها، فإن المؤلفين الرجال في أعمالهم صوروا النساء عن قصدٍ وبغير قصدٍ بأنهن كائنات أدنى. وهذه المشاعر والتعبيرات وجدت طريقها تلقائيًا من خلال صور وأوصاف الشخصيات النسائية، حيث كان التحيز الذكوري مترسخًا بعمق في العقل الباطن.

كان نهج كيت ميليت هذا رائدًا في فهم الأدوات الأبوية التي تبدو للوهلة الأولى محايدة وغير خاضعة لسلطةٍ ما، كالأدب، في ترسيخ الذكورية وإدعاء دونية النساء. إذ كانت الأعمال التي ألفها الرجال ذات مصداقية لا يمكن التشكيك فيها أو مراجعتها. ومثل معظم البنى الذكورية، فإن الممارسات الثقافية تحظى بقدسية يصعُب المساس بها.

النظام الأبوي كسلطة سياسية

كانت مساهمة كيت ميليت في كتاب “السياسات الجنسية”، تركز على فهم البناء والعلاقات الجندرية بصفتها بنية سلطوية راسخة بعمقٍ ولها آثار سياسية مدمجة في داخلها. توضح ميليت أن المؤسسات المختلفة التي أنشأها النظام الأبوي تُستخدم بمهارة، وبشكلٍ مفرطٍ، للحفاظ على تفوق الرجال وسلطتهم على النساء.

وقد طرحت كيت سؤال “الشخصي سياسي” في تلك الفترة، من خلال تركيزها على مقاربة العلاقات والنظم الجندرية من منظور سياسي يرفض الاختزال. حيث وضحت أنها لا تختصر “المجال السياسي إلى ذلك القطاع الضيق والحصري والمؤسساتي، أو إلى السياسة الرسمية التي ينتهجها كل من الديمقراطيين أو الجمهوريين ممن تعبنا ومللنا منهم. لكن ما أعنيه بالسياسة هو العلاقات المبنية على أساس السلطة، وتلك المنظومة القائمة على حكم مجموعة لمجموعة أخرى. أي أن هناك مجموعة مسيطرة وأخرى تابعة”.

كان الكتاب بمثابة إعلان سياسي، قدمت فيه ضرورة “تطوير علم نفس وفلسفة أكثر اقناعًا. ندرس من خلالهما العلاقات السلطوية وفق طريقة جديدة لم تقاربها السياسة المؤسساتية أبدًا. وهو الوقت الملائم أيضًا لتقديم نظرية في السياسة، تُعالج فيها العلاقات السلطوية على أسس أقل رسمية في مقاربة العلاقات الشخصية بين أفراد مجموعات معلومة ومتجانسة في العرق والطبقة والجنس. فالنظم السياسية الرسمية لا تملك أي تصور عن مدى شمولية واستمرارية حالة الاضطهاد التي تعيشها المجموعات”.

السلطة والجندر والاضطهاد الأبوي

وجادلت كيت ميليت بأن معظم البنى القائمة تعد وسيلة في يد النظام الأبوي. سواء كانت العلوم البيولوجية، التي تزعم الضعف الجسدي للنساء، أو السياسة التي مُنحت فيها المرأة تاريخيًا حقوقًا ضئيلة أو لم تجنِ منها أي حقوق على الإطلاق. أو البنية الأسرية، التي تربط النساء بالمجال المنزلي، جميعها مترابطة بشكلٍ كليٍ، وتلعب دورًا جماعيًا في الاضطهاد الأبوي.

وهذا ما أدى إلى ما أسمته بـ”تواطؤ النساء في الهيمنة الذكورية”، من خلال تحليلها للطرق التي تتم بها تنشئة النساء اجتماعيًا. وذلك لقبول القيم والأعراف الأبوية، والتي تمرر فكرة أن خضوع النساء هو أمر يعود “للطبيعة”، وليس للبناء السياسي.

وفي هذا السياق، تبدأ الكاتبة النسوية بتحدي الأيديولوجيا الذكورية، باعتبار أن قوة بقائها تنبع من عدم مساءلتها. وذلك بقولها “لماذا لم تخضع منظومة الهيمنة الذكورية وسلطتها لأي مناقشة؟ جزئيًا، أعتقد أن الأمر يعود إلى اعتبار أن مناقشتها أمر خطير جدًا، فأية ثقافة لن تناقش أبسط افتراضاتها وأقدس معتقداتها.

لماذا لا يشير أحد إلى حقيقة أن الجيش والصناعة والجامعات والعلوم والمكاتب السياسية والموارد المالية، وكل سلك سياسي في ثقافتنا، بما في ذلك قوى الشرطة القمعية، كلها بيد الرجل؟ المال، السلاح، والسلطة، كلها ممتلكات الذكر، والرب أيضًا ذكر، بل ذكر أبيض”.

وتستطرد كيت في مناقشة الهالة المقدسة التي تضفي بها الأبوية الشرعية على قيمها الاضطهادية بإثارة استخدام السخرية وعزل الناس عن التفكير النقدي. خصوصًا، إذا ما تعلق الأمر بالتراتبية الجندرية والجنس. برأيها، يتعلق ذلك بـ “أن إحدى وسائل دفاع الثقافة الذكورية في مواجهة أي تعدٍ أو فضحٍ لسيطرتها، هي التصرف بشكلٍ ساخرٍ وبدينامية بدائية من الضحك والنكران.

السلطة والجنس والجنسانية

الجنس أمر مثير للضحك.. وقذر. أمر تملكه النساء فقط، فالرجال ليسوا كائنات جنسية، بل هم بشر، هم البشرية. بالتالي، أي نقاشٍ عقلانيٍّ حول حقائق الحياة الجنسية سينحدر إلى الحضيض، بالسرعة التي سينخرط فيها الرجال في نوبات الضحك. فالنساء اللواتي يحاولن الدخول في حوار ناضج يُكرهن على العودة إلى “مكانهن”. وهذه صيغة كلاسيكية قديمة ذات قيمة شعائرية.

على المستوى العام، يصبح الجنس أو أية قضية حساسة تتطرق للعلاقة بين الرجال والنساء، موضوعًا سريًا لمن يرغب بدراسته، ومتاحًا علنًا فقط للتهكم والسخرية”.

من هذا المنطلق، كان كتاب “السياسات الجنسية” إضاءة على النظام الأبوي، كنظام هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية، يرفض كل المحاولات التي تحصره في جانبٍ واحدٍ. حيث أوضحت كيت ميليت أن اضطهاد النساء ليس اضطهاد اقتصادي فقط. بل هو اضطهاد “شامل وقابع في العقل، هو اضطهاد نفسي ويعمل كالسحر، لنرى كيف يعمل هذا الاضطهاد”.

وأوضحت أنه منذ الطفولة الباكرة “تتعلم كل طفلة بأنها عاجزة مدى الحياة عن القيام بأي نشاط إنساني مهم. وبالتالي، عليها أن تحوّل نفسها إلى غرضٍ جنسيٍ. عليها أن تكون “جميلة”، وبمساعدة الجميع، يتم وزن وقياس والحكم على مظهرها فقط. إن كانت “جميلة” فستتزوج، وتركز بالتالي طاقاتها على الحمل والحفاضات. هذه هي الحياة، هذه هي حياة المرأة. هذا هو الأسلوب، الذي يتم وفقه اختزال طاقات نصف الجنس البشري إلى حدود السلوك الحيواني”.

لا يمكننا وضع حد للجرائم العرقية والاقتصادية، ما لم ننهِ حالة القمع وفكرة العنف والسيطرة. كذلك، إذا لم ندرك أن ثورة في السياسة الجنسية أساسية في تغيير ما نطمح إليه.

التغيير الشامل لاستعادة انسانيتنا

في وقتها وسياقها، ما حثت عليه كيت ميليت كما تعمل من أجله العديد من النسويات اليوم، هو أن التغيير حتمي. لكن حصار الأنظمة القمعية للفئات المضطهدة حتى اللحظة، ما يزال يدفع بهذا التغيير نحو تطور القمع ومأسسته.

لذلك، لا بد من التغيير الذي تناضل لأجله النسوية، وهو تغيير دينامية السياسات الجنسية القديمة، وإبدالها بأخرى أكثر إنسانية، ووضع حد لمنظومة القمع الحالية التي تطال الرجال والنساء على حدٍ سواء. كما لا تخلو من قمع الهويات الجندرية والميول لجنسية غير النمطية.

وحسب كيت، فإن بناء مجتمع جديد يجب أن يكون “على أسسٍ ديمقراطية، ومتحرر من تبعات الحروب والاستغلال الاقتصادي والعرقي”.

وهذا التغيير سيكون بيد الفئات التي تناضل بكفاحٍ مستمرٍ لأجله، وهؤلاء يشكلن/ون الأغلبية، على حد تعبيرها. فـ”النساء السود والطالبات/الطلاب، يشكلن/ون الأغلبية. وهذا يكفي لإحداث تغيير في حركة وشكل المجتمع، ويكفي حقًا لتحقيق ثورة اجتماعية جذرية. وهذه ستكون أول ثورة لا تسفك فيها الدماء، ولن تقود إلى ثورة مضادة، لأنها لا تهدف إلى تغيير الرؤوس بل تسعى إلى تغييرٍ جذريٍ”.

في تفكيك مفهوم “الأقلية”

تذكرنا دعوة كيت ميليت بعمل أنظمة القمع لتحطيم الثقة بقدرتنا الهائلة على الكفاح. وذلك من خلال إقناعنا أننا أقلية. في نظرها، نحن “كتلة كبيرة وكافية لتحقيق التغيير في مجرى التاريخ البشري، من خلال تغيير القيم الأساسية، وتغيير الوعي. ولا يمكننا تحقيق هذا التغيير في الوعي بدون إعادة بناء القيم”. ولن يتحقق هذا بدون ما وصفته بـ “إعادة هيكلة الشخصية”.

كما لا يمكننا وضع حد للجرائم العرقية والاقتصادية، “ما لم ننهِ حالة القمع وفكرة العنف والسيطرة. كذلك، إذا لم ندرك أن ثورة في السياسة الجنسية أساسية في تغيير ما نطمح إليه، على صعيد نوعية الحياة. فالثورة الاجتماعية والثقافية في أميركا والعالم، تعتمد بشكلٍ عميقٍ على تغيير في الوعي الخاص بالعلاقة بين الأنواع الاجتماعية. كما تعتمد على تعريف جديد للإنسانية والشخصية الإنسانية”.

قد يكون لكتاب “السياسات الجنسية”، قصوره الفكري والسياسي، مثل أي نص يوثق سياقًا في فترة معينة. لكن ما أظهره عمل كيت ميليت هو الطرق التي يتغلغل بها النظام الأبوي في العمل السياسي والتعبير الثقافي.

لذلك، يعتبر كلًّا من العمل السياسي والثقافي مهمًا لإحداث “الوعي”. وبحسب كيت ميليت، هذا الوعي من شأنه أن يمثل ثورة جنسية، ويخلق عالمًا قادرًا على انتشالنا من الضياع.

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد