الذكوريون واستغلال الدماء للنيل من النسوية

صدمت الإبادة الاستعمارية على غزة ضمير العالم بأكمله، بما فيه التيارات النسوية المختلفة. كانت الصدمة كفيلة بهدم عقود من تلميع الاحتلال في الإعلام الغربي. وهزت مشاهد أشلاء الأطفال/ الطفلات والناس، من أعمار وأنواع اجتماعية مختلفة، قلوبًا حاول المستعمر عبر قرون غزوها باللامبالاة والفردانية.

طالت الإبادة والتطهير الاستعماري المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء، والمنازل والشوارع وقوارب الصيد وخزائن المياه، حتى ما عاد للنجاة أيّة فرصة في غزة.

لكن وقاحة الذكوريين لم تتوقف ولا حتى احترامًا لهيبة الدماء الغزية. ولم تلتفت إلى أنه لا معركة لكل مَن يتنفس، سوى محو هذا الكيان السفاح وتطهير الأرض منه.

لنطرح السؤال، كنسويات ملتزمات بالنضال ضد الاستعمار والنظام الأبوي وكل أنظمة الاضطهاد: هل هذه وقاحة ذكورية، أم شر أبويّ لا يحترم حُزننا؟

ربما على الذكوريين، الذين يتغنون بأساطير النظام الأبوي، أن يكفوا عن الجبن. ربما يتعلمون طرقًا أكثر فاعلية لوقف الاستعمار، بدلًا من خدمة مشاريعه وتفريغ طاقاتهم في مهاجمة النسوية.

نسويتنا صدحت بواجبنا، فماذا عنكم؟

لم تصدمنا محاولات النيل من النسوية، وسط كل البطش الاستعماري الذي يطال غزّة. وذلك ليقيننا أن النظام الأبوي هو سمٌ أنتج فكرًا طفيليًّا، هدفه الوحيد تفتيت الجماعة ونشر الفتنة والعنف والتحريض.

إلّا أن ما حصل من مزايدة على النسويات في المنطقة على وسائل التواصل الاجتماعي فاق التحريض إلى الاستهداف والتشكيك في المواقف الجذرية المناهضة للاستعمار. تؤكّد هذه المواقف خطورة الثقافة الأبوية، سواءً ضد النساء أو أي مكوّنٍ اجتماعيٍّ من مكونات شعوبنا في بلداننا المستعمرة والمضطهدة.


منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، نعيش مأساة حقيقية رافقها شعورٌ قاتل (بالعجز والخيبة). منذ ذلك يوم وقلوبنا تعتصر على مآل شعوبنا. إبادةٌ وتوغلٌ في الوحشية الاستعمارية، يقابلها غيابٌ في الكيانات الثورية الحقيقية القادرة على دعم المقاومة الفلسطينية ومواجهة هذا الاحتلال الصهيوني الغاشم.

إلا أننا، ندرك أيضًا أن جزءًا كبيرًا من المعركة يتعلق بعدم الاعتياد وعدم الاستسلام لليأس. وجزءٌ آخرٌ للتنبيه من أي فخٍ قد يعرقل جهودنا في فضح هذه الإبادة وهذا الكيان.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by Sharika WaLaken (@sharikawalaken)

ومع ذلك، لم تسأم آلة الفتنة الذكورية من بث (خطاب كراهية النساء وإشهار سيف العداء للنسويات على وسائل التواصل الاجتماعي)، فصمّمت على الهجوم عليهن و(تضليل نضالاتهنّ ضد أنظمة الاستعمار). وعوضًا عن تركيز الجهود على مقاومة الآلة الاستعمارية، أضلّ البعض بوصلة العداء لإسرائيل وأميركا والإمبريالية العالمية، و(“تجنّدوا” على تويتر للتحريض على النسوية). واستغلوا بكل خسة ودناءة، قضايا الأسيرات والمقاومات للنيل من النسويات.

 

هل النسوية أخطر من الاحتلال؟

بتناقضٍ مألوفٍ، يعترفون، أخيرًا، بوجود عنف جنسي وجسدي وسياسي يُمارس على النساء بشكلٍ أكبر بسبب هويتهن الاجتماعية. وفي موقف أغرب، يعترفون أن هذا العنف موجود، لكنهم يتبرؤون منه فقط عندما يمارسه العدو، ويفتخرون به أو يتسترون عليه عندما يمارسونه هم.

ينشغل الذكوري بكل جبنٍ في تحميل النسويات وزر العنف ضد النساء الممارس من المستعمِر، ويتجنب إدانة هذا الكيان ومواجهته والنضال ضده. فالنظام الأبوي يُدرب الرجال على أن يوجهوا طاقتهم وعنفهم نحو النساء، وبالخصوص من يحتقرونهن، وليس ضد النظام الذي يضطهدهم.

لطالما انزلق أغلب الذكوريين إلى فخ خدمة الاستعمار، بدلًا من مقاومته. إذ روّضت المنظومة الأبوية أزلامها على توجيه طاقتهم وعنفهم نحو النساء والفتيات، ما يخلق صراعات تحيّد البوصلة عن الاستعمار. يحيدون عن بوصلة مقاومة جرائم الاستعمار طوعًا، وينتظمون جماعاتٍ وأفراد لمهاجمة النسويات اللواتي أطّرن مفاهيم العنف ضد النساء والفتيات وفضح جرائم الأبوية والاستعمار معًا.

وفي حين أثبتوا فشلهم حتى في “مهام الحماية” التي استنزفهم بها النظام الأبوي، نجدهم اليوم ينوحون على النسوية بكلّ جبن. بينما تستمر النسويات المناهضات للاستعمار بفضح الاستعمار وأدواته، مثل استخدام الاعتداء الجنسي كسلاح حرب، والإبادة الانجابية، وأنواع العنف الأبوي والاستعماري. دون أن يستسلمن لفخ النظام الأبوي والاستعماري في فصل المعركة ضد أيّ منهما.

نواصل المعركة ولا عزاء للجبناء

كنا وما نز نؤمن أن النسوية هي إطار سياسي وثوري، لكنّه ليس محصنًا من أن يختطف من الأيديولوجيات المعادية لتحرر الشعوب وتحرر النساء. لذلك، وقفنا بحزمٍ ضد الحيل الاستعمارية الخبيثة التي حاولت تشويه المقاومة وتبرير العدوان والإبادة باسم قضايا النساء الأكثر حساسية كالاعتداء الجنسي، أو تصويرهن بأنهن محايدات حتى إن تورطن في الفعل الاستعماري.

ما تزال النسوية الناطقة بالعربية والمناهضة للاستعمار على أشد درجات وعيها بهذه الحيل الدنيئة الرامية لفصل النضال النسوي عن التحرر الشامل لشعوبنا. وكانت بالمرصاد من خلال فضح هذا الخطاب ومواجهته وتفكيكه وإبراز الهدف منه.

لم تتوقف النسوية المناهضة للاستعمار عن خوض المعارك التحررية، والمساهمة في إنتاج خطابٍ واضحٍ وجذري. وهذا الخطاب قادر على تحدي الاستعمار والنظام الأبوي، في وقتٍ واحدٍ وفضح تداخلهما، وكيف يتغذيان على نفس الأسس. وبالتالي، لا يمكن القضاء على أحدهما بشكلٍ منفصلٍ عن الآخر.

ربما على الذكوريين، الذين يتغنّون بأساطير النظام الأبوي، أن يكفوا عن الجبن. ربما يتعلمون طرقًا أكثر فاعلية لوقف الاستعمار، بدلًا من خدمة مشاريعه وتفريغ طاقاتهم في مهاجمة النسوية.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by Sharika WaLaken (@sharikawalaken)

النسوية ليست طائفة أو قطيع

فكرنا النسوي يستطيع فهم دوافع هؤلاء، لكننا لا نتفهّمها، ولا نعذرهم. فهم يعتقدون أن النسوية فصيل واحد، مدرسة واحدة، أيديولوجيا واحدة، وتيار واحد. يرجع هذا إلى ضيق الأفق من زاوية. ومن زاوية أخرى، نرجعه إلى الكسل المعرفي واستسهال التهجّم على النساء.

فقد وصل إلى مسامع الذكوريين تضامنات من نساء يتلحّفن بالنسوية، ويكتسين بثياب الحياد والموضوعية. والأخيرات أعلن تضامنًا مع افتراءات جيش الاحتلال حول ادعاءات تعرض المجندات والمستوطنات للاعتداء الجنسي من أفراد المقاومة. ودون تنقيبٍ عن أصوات نسوية مناهضة للاستعمار والبروباغندا الصهيونية، قفز الذكوريون نحو الاعتقاد أن هؤلاء النساء يمثلن كل فصائل النسوية.

النسوية ليست طائفة أو مجموعة موحدة، بل هي تيارات ومدارس تختلف حسب الأيديولوجيا والخلفية السياسية. ولا يمكن أن توحد الممارسات والتصريحات الفردية كتوجهٍ لجميع النسويات. لقد ظهرت تيارات نسوية متعددة، كان هدفها هو الدفاع عن مصالح فئة ضيقة من النساء ذوات الامتيازات الطبقية والعرقية والغيرية. وكان هذا التوجه هو السلاح الذي استخدمه النظام الأبوي والرأسمالي والاستعماري من أجل إخماد ثورة نسوية شاملة، تدكُّ هذه الأنظمة بأكملها وتمحيها.

ما تزال النسوية الناطقة بالعربية والمناهضة للاستعمار على أشد درجات وعيها بهذه الحيل الدنيئة الرامية لفصل النضال النسوي عن التحرر الشامل لشعوبنا.

نضال تقاطعي مناهض للاستعمار والأبوية

ظلت النسويات المناهضات للاستعمار والرأسمالية والعنصرية واقفاتٍ بحزمٍ ضد هذه التيارات، نقدنها وتحدينها بآليات وأدوات ونظريات ذات أهميةٍ كبرى. ولن ننكر أن هذه التيارات المعادية قد تسللت بعمقٍ، حتى داخل بعض التيارات التي ترفع شعار مناهضتها. وكان ذلك عبر عدة أدوات منها التمويل والفرص الأكاديمية، لكن ظلت أساليب هذه التيارات الليبرالية والاستعمارية والعنصرية مكشوفة ويسهل تفكيكها.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by Sharika WaLaken (@sharikawalaken)


في المقابل، فإن هذه التيارات قد عرفت نموًا منذ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وتنتشر بمرونة لافتة للانتباه. لذا، كان من المتوقع أن تظهر الأصوات المدافعة عن بروباغندا الاستعمار الصهيوني باسم النسوية أو الدفاع عن النساء. وهذا، بالطبع، استلزم وقفة جادة من النسويات الجذريات ووضع حد لهذا التوغل.

مع ذلك، لا يمكن أن تُصم النسوية في المنطقة الناطقة بالعربية بجرمِ قلة من حاملات الفكر الاستعماري والمدافعات عن مصالحهن الضيقة. وإن كان التصدي لخطابهن مسؤولية نسوية خالصة، فإن التخوين والمزايدة على جميع النسويات بصفتهن تابعات للاستعمار هو أسلوب أبوي بحت. سيكون الحسم معه بنفس الجدية التي قوبل بها الخطاب الاستعماري الرافع زورًا شعار حماية النساء.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد