النسوية ليست سلاحًا استعماريًا: نصدق الناجيات.. ولا نصدق مجندات جىش الاحىلال

“المجندات تعرضن للاغتصاب!” لم يكُن عدوان جيش الاحتلال الإسرائيلي الأخير على قطاع غزّة خاليًا من الأكاذيب والتضليل الإعلامي حول العالم. ومع كل عدوان يشنه جيش الاحتلال، هناك حربٌ تشترك فيها كبرى الشركات والمنصات الإعلامية لغسل وجه الاحتلال وإظهاره بمظهر الاستضعاف.

فمن جهةٍ، يساعد ذلك على تبرير العنف والمجازر ضد الفلسطينيات/ين. ومن جهةٍ أخرى، يكسب الاحتلال دعمًا عالميًا وأرضًا افتراضية تساعده في ارتكاب مجازر مستقبلية دون محاسبة دولية. هذا الجهد يفرض سرديات الاحتلال عن جرائمه المرتكبة وشن حروب التطهير العرقي ضد المجتمع الفلسطيني بأكمله. فمَن يسرق الأرض، قطًعا يسرق السردية.

إن مطالبتنا ووصمنا لعدم رفع شعار “نصدق الناجيات” مع مجندات جيش الاحتلال، يصوّر مبدأ التصديق وكأنه نهجٌ ساذجٌ نتبعه بلا حساب أو مسؤولية.

وضاعة مَن ينتهزون الحرب لاستهداف النسويات

بدأت عمليات “طوفان الأقصى” في تشرين الأول/أكتوبر الجاري، وبدأ معها انتشار سرديات مضللة عن ارتكاب المقاومة الفلسطينية انتهاكاتٍ ضد المستوطنات/ين. وكان النصيب الأكبر للانتشار، هو سردية تعرّض مجندات جيش الاحتلال إلى اعتداءاتٍ جنسيةٍ فردية وجماعية. لتقوم بعدها المنصات الداعمة لجيش الاحتلال بتداول تلك السردية، ضمن آلية إعلامية صهيونية تشيطن المقاومة وتبرر الاستعمار.

مع هذا التداول، احتفظت أغلب المنصات النسوية في المنطقة بموقفها الداعم للمقاومة والرافض للاحتلال. لكن اللافت للانتباه كان هؤلاء اللواتي/الذين يتواجدن/ون في المنطقة الناطقة بالعربية، وقُمن/قاموا بتبني سردية اغتصاب المجندات. فورًا تم توجيه اللوم إلى المنصات النسوية والنسويات على “ازدواجية معاييرهن”، فيما يخص تصديق الناجيات من العنف الجنسي.

بالطبع، هناك ازدواج في المعايير. لكن هذا الازدواج ليس وصمة، إنما له أسبابه التي هي في صلب خطاباتنا النسوية التقاطعية.

نصدق الناجيات.. شعارنا السياسي النسوي

منذ سنوات، رفعت النسويات في المنطقة الناطقة بالعربية شعار “نصدق الناجيات”، وحتى قبل انتشار حركة “أنا أيضًا”. فموجات الاحتجاج عام 2011، سبقتها موجات احتجاج نسوي ضد العنف الجنسي كوباء اجتماعيٍ مستشرٍ ببلداننا. كان هذا الاحتجاج ضد انعدام تجريم العنف الجنسي، بالإضافة إلى انتشار ثقافة لوم الضحية والمعايير الأخلاقية الأبوية. وذلك لأن هذه الأسباب خلقت حالة عامة من “تكذيب وإخراس” النساء ووصمهن، بمجرد البوح بتعرضهن للعنف الجنسي. فيتم تحويلهن إلى جانيات، ليفلت الجناة الحقيقيون من العقاب والمحاسبة القانونية والمجتمعية.

كان السبيل الوحيد لمواجهة هذا التكذيب والإخراس الممنهج، هو تبني شعار نسوي ينظر إلى قضية العنف الجنسي بأبعادها السياسية والاجتماعية والنفسية. لتنجح حركات نسوية في وضع مفهوم التصديق المستند على حقيقة أن أغلب المتعرضات للعنف الجنسي هن النساء والفتيات، في مواجهة خطابات وآليات الإخراس الذكورية. دفعت النسويات ثمن هذه المواجهات مع الأنظمة الأبوية في المنطقة. إذ تعرضت أغلبهن إلى الملاحقات الأمنية والقضائية، بجانب السجن والترحيل والاستهداف بالعنف الرقمي والمجتمعي.

تلك لحظة تراكمية فارقة في تاريخ نضالنا النسوي في المنطقة الناطقة بالعربية، نقلب بها موازين القوى لصالح النساء. فهؤلاء يتم لومهن ووصمهن وتكذيبهن، بسبب علاقات القوة غير المتكافئة بينهن وبين المعتدين. يحدث ذلك خصوصًا في الأوقات التي تكون فيها علاقات القوة راجحة لصالح الجناة، مثل الطبقة، والعرق، والميل الجنسي، والسن، والحالة الاجتماعية. جميع هذه العوامل تشترك في النقطة التي ينطلق منها العنف الجنسي بوصفه عنفًا قائمًا على النوع الاجتماعي.

التصديق كمفهوم نسوي

من ضمن العوامل الأخرى، هي صعوبة إثبات العنف الجنسي في غير الأماكن العامة. وهذه بالأخص يتم استخدامها كثغرة لوضع عبء الإثبات على الناجيات، لا الجناة. فأغلب وقائع العنف الجنسي في المجال الخاص تحتاج أدلة ظرفية لإثباتها، وعلى رأسها شهادة الناجية نفسها. وذلك لغياب أركان إثبات الواقعة مثل الشهود والتسجيل وغيرها من دلائل الإثبات. وبهذا، يكون التصديق هو المنطلق الأول في وقائع الاعتداءات الجنسية.

في نفس الوقت الذي تحارب فيه النسويات لإرساء مفهوم التصديق، حارب الذكوريون من أجل دحض شعار “نصدق الناجيات”. بجانب المجموعات الذكورية التي تكوّنت بعد شعور الرجال النمطيين بالخطر من فضح النسويات لجرائمهم. ثم تسربت جدلية ذكورية تُفيد أننا نصدق النساء فقط لكونهن نساء. هذه حقيقة نؤكدها.

نعم؛ نصدق النساء لأنهن نساء. لكن تصديقنا هو موقف تضامني نسوي وسياسي لمواجهة التكذيب والإخراس المستمران لقرونٍ ضد النساء – أيضًا لكونهن نساء. أي أن تصديق الناجيات يكون موقفًا مبدئيًا مبنيًا على النوع الاجتماعي، تأتي بعده خطوة التحقق التي تقوم بها جهات التحقيق المختصة، في حال قررن الإبلاغ. حتى طرق الإبلاغ في بلداننا، غير متاحة أمام أغلب النساء والمهمّشات من صاحبات/أصحاب الهويات الجندرية والميول الجنسية غير النمطية. ليكون موقفنا الواضح هو التصديق المبدئي في وجه التكذيب الممنهج.

إن مطالبتنا ووصمنا لعدم رفع شعار “نصدق الناجيات” مع مجندات جيش الاحتلال، يصوّران مبدأ التصديق وكأنه نهجٌ ساذجٌ نتبعه بلا حساب أو مسؤولية. وهذه هي الفكرة الذكورية عن مبدأ التصديق، والتي تتشابه في أبويتها مع آليات جيش الاحتلال لطمس ومحو وإبادة الشعب الفلسطيني وسرقة السردية لتبرير المجازر. فكلاهما يعتبر الحق اندفاعًا بلا أساس، ويبذل أقصى جهده لدحض هذا الحق وإخراس صاحباته/أصحابه.

هل نصدق مجندات جيش الاحتلال.. لأنهن نساء؟

عندما نتحدث عن العنف الجنسي، فنحن نتحدث عن علاقات القوة بشكلٍ واضحٍ ومباشرٍ. على مدار عقود، جادلت النسويات أن جرائم العنف الجنسي لا يتم ارتكابها لأغراض جنسية، إنما لأغراض التحقير والإذلال. تمامًا كما فعل مجندو ومجندات جيش الاحتلال مع الفلسطينيات في سجون الاحتلال وخارجها.

فمفهوم التصديق لم يكُن أبدًا مبنيًا على مظلومية النساء التاريخية، دون النظر إلى مواقعهن الاجتماعية التي تختلف من امرأة لأخرى. هناك نساء يقعن أعلى سلم الامتيازات، مقارنة برجال آخرين. في هذه الحالة، “قد” تحول الامتيازات بين وقوعهن “ضحايا” للرجال. على النقيض، أغلبهن يستخدمن تلك الامتيازات لممارسة عنف بحق الرجال، مثل مجندات جيش الاحتلال، والأسرى الفلسطينيين. والأمثلة تتوسع لتشمل نساء الطبقات العُليا ورجال الطبقات المُفقرة، وتستكمل بتداخل علاقات القوة مع النوع الاجتماعي.

أما عن عبء الإثبات الذي نضعه اليوم على عاتق جيش الاحتلال ومجنداته، فليس مُطابقًا لوضع عبء إثبات الاعتداء الجنسي على النساء في مجتمعاتنا من قبل الذكوريين. من الصعب أن نتخيل غياب تام لأي آلية تثبت تعرض المجندات للعنف الجنسي من قبل رجال المقاومة. حيث تنتشر مقاطع مصورة منذ بدء العدوان، يظهر فيها مجندو جيش الاحتلال أثناء التمثيل بجثامين الفلسطينيين. فكيف غابت الهواتف والتسجيلات وقت الاعتداء “الجماعي” على المجندات؟ أين الشهادات، أين النساء؟ وأين الأدلة الظرفية، لنكون مُطالبات اليوم “بتصديق” المجندات لمجرد كونهن نساء؟

ترجح كفة علاقات القوة لصالح مجندات جيش الاحتلال، بقوة السلاح وسيطرة الاحتلال على أغلب الأراضي الفلسطينية. يتضمن ذلك بروباغندا جيش الاحتلال نفسه عن المجندات بأنهن نساء مُمكنات، لا يتعرضن للقمع الذكوري مثل الفلسطينيات وأغلب نساء المنطقة. لكن هذه البروباغندا ارتدّت على جيش الاحتلال ومجنداته بعد عملية طوفان الأقصى.

الآن.. نصدق وهم تمكين المجندات

كانت عملية طوفان الأقصى كاشفة لوهم تمكين النساء المجندات بجيش الاحتلال الإسرائيلي. فنفس الآلة الإعلامية التي استمرت عقودًا في ادعاء أن المجندات أكثر تمكينًا وتحررًا من الفلسطينيات، هي نفسها التي قامت باستخدامهن لبناء سردية إعلامية تشيطن المقاومة الفلسطينية. فجأة، اختفى التمكين والتحرر، وحل الاستضعاف والمظلومية محلهما. وفجأة أيضًا، أصبح مناسبًا لجيش الاحتلال نشر سردية استهداف النساء المجندات، دون أدنى صوت للمجندات أنفسهن.

يظهر هذا التناقض الآن كالشمس. لا تمكين، بينما يتم استخدام النساء لأسباب استعمارية، وليست سياسية فحسب. لا تحرر، بينما يتحدث الإعلام الصهيوني عن “ناجيات”، دون أن تكون الناجيات أنفسهن صاحبات الصوت. وطالما أن قوة السلاح والرصاص انهارت أمام سلاح “العنف الجنسي”، فهزيمة الاحتلال لا يلزمها إلا تصدير بعض المعتدين جنسيًا من بلداننا إلى حدود فلسطين المحتلة، لتتحرر الأرض. عبث!

لماذا يجب أن نصدق الآن أن مجندات جيش الاحتلال هن نساء تعرضن لاعتداء جنسي، بينما الصورة الصهيونية عنهن أنهن نساء لا يقهرن وجيش لا يُقهر؟ أم أنه مطلوبٌ منّا أن نصدق ما يناسب جيش الاحتلال، متى رأى هو ذلك؟

لأننا نسويات نتبع التصديق كمبدأ نسوي سياسي تضامني، نرفض استخدام قضايا النساء لإحكام قبضة الاحتلال على فلسطين.

كذبة اغتصاب المجندات، وازدواجية المعايير النسوية

من أجل هؤلاء اللواتي/الذين يتهمن/ون النسويات بعدم تصديق المجندات لأنهن أيضًا “ناجيات”، سنمشي الطريق خطوة خطوة. أين الناجيات؟ هل كان جيش الاحتلال سيتردد لحظة “لاستخدامهن” إعلاميًا؟ لماذا لا يتم اعتبار هذه السردية تحديدًا، مثل الصور المفبركة التي ينشرها جيش الاحتلال عن قتل المقاومة لمستوطنات/ين داخل المنازل – المسروقة؟

كذلك، لماذا تم حذف أغلب الأخبار الإنجليزية التي تداولت خبر تعرض المجندات للاغتصاب؟ هل تخاف المجندات على هويتهن وخصوصيتهن؟ حقهن بالطبع، لو كنّ في سياق يكذّب المتعرضات للعنف الجنسي، يلومهن، ويخرسهن بالقانون والمعايير الأبوية. لكن هذه ليست حالة المجندات.

كما تقول البروباغندا الصهيونية، المجندات والمستوطنات ممكّنات ومتحرّرات ويملكن أصواتهن، عكس جميع النساء في المنطقة. فأين هن؟ الشهادة، الوحيدة، لرهينة إسرائيلية تم إطلاق سراحها أفادت أن المقاومة الفلسطينية عاملت الأسرى والأسيرات بما يتفق مع المعايير الدولية، بما فيها الرعاية الطبية. عكس جرائم يرتكبها جيش الاحتلال ضد الفلسطينيات. لماذا لا نسمع أصوات الذكوريين تتهم جيش الاحتلال بالازدواجية؟ لعل المانع خير!

اليوم يتم اتهامنا “بالازدواجية”، كأنها فرصة الذكوريين المعتادة للانقضاض على النسويات، حتى في أوقات الحرب. كنسوية، لا أعتبر أن النسوية خطيّة، أو مفهومٌ غير قابل للنقاش. فالنسوية تعلّمنا التفكيك والتحليل والتنقيب عن الأسباب والجذور. والأهم أنها مفهوم انسيابي يتعاطى مع المعطيات وينتبه للتداخلات والإحداثيات. وكنتيجة، فأي محاولة لوضع النسوية في قالبٍ واحدٍ، أو مسطرة فكرية واحدة، هي محاولة لتجريد النسوية من معناها وأهميتها.

ومن المخزي حقًا أننا كنسويات مضطرات، كل مرة، إلى شرح بديهية أنه لا يوجد قاعدة نسوية ثابتة. إنما هناك مبادئ والتزامات نسوية ننطلق منها كنسويات بمختلف آلياتنا وأدواتنا وخطاباتنا. أما اللواتي/الذين يعتبروننا ازدواجيات، فمرحبًا بهن/م في عالم التفكيك والتحليل النسوي.

النسوية ليست سلاحًا استعماريًا

بدا واضحًا لصاحبات/أصحاب العقول اليوم أن ادعاء تعرض المجندات للعنف الجنسي، ما هو إلا أداة إعلامية تستخدم النسوية والنساء، لصالح الاستعمار. فالعدوان الإسرائيلي يتجاوز أسبوعه الثالث منذ طوفان الأقصى وتداول سردية الاغتصاب، ليكون بذلك جيش الاحتلال قد استخدم النسوية كسلاح ضد الفلسطينيات/ين.

لأننا نسويات نتبع التصديق كمبدأ نسوي سياسي تضامني، نرفض استخدام قضايا النساء لإحكام قبضة الاحتلال على فلسطين. فنحن نتبنى منظور نسوي تقاطعي يضع نصب أعينه كيف تلاحق الأنظمة الاستعمارية والأبوية سرديات النسويات، لتقفز على مكتسبات الحراكات النسوية وتحقق مكاسب سياسية أو تغسل وجوه القمع والاستبداد.

لا يمكن لإحدانا رفع شعار “نصدق الناجيات”، دون أن تكون مؤمنة أن فلسطين وقضايا الشعوب الأصلانية والنضال ضد الاستعمار قضايا نسوية. لأنه كما تسرق المعايير الأبوية أصوات النساء وتكذّب تعرضهن للعنف الجنسي، يسرق الاحتلال الأراضي ويكذّب سرديات النضال ويتبع المعايير الأبوية الأكثر وحشية. مهما تضخمت، ومهما كانت أدواتها متشعبة وعالمية، تظل علاقات القوة محل تفكيك نسوي.

هذا بالضبط ما نقف عليه اليوم. فموقفنا النسوي السياسي هو تصديق المقاومة ورفض سرديات الاحتلال. وهذا الوضوح يشمل فهم عميق لعلاقات القوة، وكيف يتم استخدام الإعلام لشن حرب تطهير عرقي ضد شعب كامل، مستغلًا خطاباتنا النسوية في طريقه. وها نحن اليوم نقولها واضحة وضوح أسلحتهم وقصفهم المستمر: النسوية ليست سلاحًا استعماريًا. ندعم المقاومة الفلسطينية.

 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد