بين الاستهداف السياسي والديني.. كيف تُنصب المحاكم الأبوية للنسويات؟

لا يزال استهداف الحركات النسوية في المنطقة الناطقة بالعربية مستمرًا. لكنّ ذلك لا يعني أن هنالك مرحلة تاريخية كانت خالية من قمع الحركات النسوية ومحاربتها. إلّا أن أدوات التضييق الأبوي قد تنوعت، وأصبحت تستهدف المساحات النسوية الأكثر تأثيرًا. خصوصًا المجموعات والأفراد اللواتي يأخذن على عاتقهن مهمة التوعية النسوية وفضح الاعتداءات الجنسية.

تجنح الأنظمة الأبوية إلى الوسائل العقابية، مثل المحاكمات والاعتقال السياسي والتشهير واستخدام العقاب الديني، كالتكفير وهدر الدم. كلُ ذلك في محاولة لمحو النضال النسوي، وزرع بذور الخوف وتهديد مصداقية النسويات. فهل يمكن للنظام الأبوي أن ينجح في مسعاه؟

هذه الطفرة في المقاومة والأساليب القوية كسرت في وقتٍ وجيزٍ أقوى سلاسل الأبوية وهي حصار الضحيات/الناجيات وتطبيع الاعتداء الجنسي ولوم الضحية.

النضال النسوي يكسر سلاسل الأبوية

لا يمكن تخطي الشعلة النسوية التي أوقدت نار النضال في المنطقة الناطقة العربية خلال العقد الماضي. تدفقت الأصوات والحشود الثائرة بطرقٍ متعددة. تسللت عبر الجدران السميكة للنظام الأبوي، وزنازين الاعتقال المنزلي، وهروات قوات الدولة الأبوية وتشريعاتها القمعية.

انطلق النضال بآلياتٍ تشمل الإنتاج المعرفي النسوي الذي يتحدى الأيديولوجيا الذكورية. والتنظيم الذي ضم مجموعاتٍ مختلفة وأصواتٍ نسويةٍ متنوعة. أهم هذه الآليات هي الحملات الإعلامية والاحتجاجات وفتح المساحات الآمنة. وذلك لمشاركة الغضب والتضامن النسوي والتجارب الأليمة الناتجة عن العنف الأبوي.

وقد تميزت هذه اللحظة التاريخية بوجود حركات متعددة وعابرة للحدود تتكتل مع بعضها عبر الفضاءات الرقمية وتهز عروش السلطة الأبوية.

فما إن تنطلق صرخة أو نداء نسوي غاضب، حتى تلتف حوله النسويات من المحيط إلى الخليج. مشهد يهدد السلطة الأبوية في شقيها السياسي والاجتماعي، وحتى للحركات الثورية التي يهيمن عليها الرجال. وخاصةً تلك التي لطالما تعاملت بإقصاء وذكورية مع القضايا النسوية والكويرية.

بينما تراقب الأنظمة الأبوية بخوفٍ شديدٍ تأسيس حركات المقاومة، انتشر الوعي النسوي. إذ انطلقت المنصات التي تساهم في إنتاج معرفة نسوية ثورية وتعريبها، ونفض الغبار عن إرث نسويات الجيل الأقدم. والأهم، هو تفكيك المفاهيم الذكورية عن كل ما يخص النساء والفئات الجندرية المختلفة. من خلال تعريفها وشرح كيفية عملها والهدف منها، تتوحد الجهود ضد القمع الأبوي.

آليات نسوية مقاومة للاستهداف الأبوي

تفضح النسويات العنف الأبوي، والذي يشغل الحيز الأكبر من العمل النسوي في المنطقة. ساهم ذلك في كسر دوائر الصمت وفتح مساحات للضحيات/الناجيات لفضح المتحرشين والمغتصبين. وبتجاوزٍ للعنف الأبوي البنيوي، استحدثت النسويات آليات بديلة، منها التشهير والمقاطعة. بعد أن أثبتت مؤسسات الدولة الأبوية، كالقضاء، تحيزها وعدم تحقيقها للعدالة.

كان هذا التحرك انتصارًا كبيرًا على مستوى فهم العديد من الانتهاكات الذكورية. وبفعل جهود النسويات، انتشرت تعريفات العنف الجنسي كالتحرش والاغتصاب بعد الحملات المكثفة ضده. كما تم فتح مساحات أكبر لكسر وتحدي وصمة العار الملصقة بالضحيات/الناجيات.

هذه الطفرة في المقاومة والأساليب القوية كسرت في وقتٍ وجيزٍ أقوى سلاسل الأبوية وهي حصار الضحيات/الناجيات وتطبيع الاعتداء الجنسي ولوم الضحية. وذلك لأنها بسطت جسورًا من التضامن العابر للحدود الجغرافية والعوائق الذكورية.

وفي الوقت الوجيز ذاته، تحرّك النظام الأبوي بطرقٍ مختلفة. بعدما فشل هجومه التقليدي عبر تخوين النسويات ووصف نضالهن بالأجندة الغربية في إخراسهنّ. بشكل تراكميّ ووتيرة ثابتة، تشعر السلطة الأبوية ككل بالتهديد.

الاستهداف والسجن في انتظار النسويات

بعد أن أصبح النضال النسوي يقطع أشواطًا في كشف زيف شعارات النظام الأبوي، شهرت السلطة الأبوية أسلحتها. وذلك لضمان بقاءها واستمرارها كنظامٍ سلطوي أمني تم تصميمه لحماية المعتدين، خصوصًا أصحاب النفوذ من الفئات المهيمنة.

في مصر، استهدف الفضح النسوي أبناء الطبقات العليا كما حدث في قضية “الفيرمونت“. بعدها، فتح القضاء المصري أبوابه لاستهداف الشاهدات/الشهود في القضية بالقبض عليهن/م، استضاف محاكمات صورية للناشطات. منهن رشا عزب وسلمى الطرزي وعائدة الكاشف، بعد دعمهن ضحيات/ناجيات الاعتداء الجنسي من المخرج المصري إسلام العزازي. 

في لبنان، اتبع القضاء نفس النهج في استخدام المحاكم لحماية المعتدين. إذ تم استدعاء الصحافية والنسوية حياة مرشاد إثر تضامنها مع ضحيات/ناجيات الاعتداء الجنسي من المخرج جو قديح.

في الإمارات العربية المتحدة، تم الحكم بالسجن والغرامة والترحيل ضد “مذهلة“، شابة مغتربة تعيش في الإمارات. وذلك لأنها واجهت الكاتب الكويتي المدان رسميًا باغتصاب قاصراتٍ من القضاء الأميركي ياسر البحري.

وكنتيجة، أصبح السجن والملاحقات القضائية في انتظار مَن يرفعن أصوات الناجيات في جميع البلدان الناطقة بالعربية. والتهم الجاهزة الفضفاضة هي الذم والقدح والتشهير. 

استمرار هذا العمل والتضامن، سيؤدي آخر المطاف إلى مقاومةٍ جذريةٍ تستهدف المنظومة، في كافة المستويات.

مؤسسات الدولة تحمي الجناة

منذ تعميم تلك الوقائع، وغيرها، كشفت النسويات تطويع المؤسسات القضائية والأمنية لحماية الرجال النافذين. كما كشفن زيف شعارات الأمان والعدالة التي سوقتها الدولة الأبوية عن نفسها، لتقطع بها الطريق أمام تغييرات جذرية تهدف لتحقيق العدالة. 

عبر إعطاء الرجال النافذين ثغرات قانونية للإفلات من المحاسبة، تم فضح التشريعات المتحيزة ضد النساء وضحيات/ناجيات/ين العنف الجنسي. حيث يتوخى منها النظام السياسي الأبوي ممارسة السلطة وإحكام السيطرة عبر الحفاظ عليها في أيدي الرجال. منها كذلك تهم “قيم الأسرة”، “وخدش الحياء” التي تستهدف عقاب الخارجات/ين عن القواعد الأبوية، ولو بالقليل. 

وباستهداف الناشطات، نكتشف أن النظام الأبوي السياسي خسر رهان ثقافة الاغتصاب واللوم في التعتيم على العنف الأبوي. بل أصبح يخشى أن يدمر العمل النسوي البنى الأيديولوجية الذكورية كلها. وذلك بعد أن تم كسر حواجز الصمت بين النساء أنفسهن، وبدأت صفوفهن تزداد قوة. وبعد أن أصبح البوح ومشاركة الألم والتجارب مع العنف مساحة بديلة لتحقيق جزء من العدالة الغائبة. 

لذلك، تكون المحاكمات والسجون والغرامات وسيلة تضمن للنظام الأبوي إعادة تطويق الواقع بالصمت. وبالتالي، يتمكن من حماية المعتدين من طبقات نافذة، نظرًا للمصالح الاقتصادية المتبادلة بين النظام السياسي وهؤلاء الرجال.

في هذا الصدد، يحاول النظام السياسي إبقاء نفسه، بالحفاظ على استمرارية نفوذ وسلطة هذه الأقلية. والدليل على ذلك، أن القضايا التي تخص رجالًا من طبقات مهمشة، لم يتم التعامل معها بهذا الحزم. وهو ما يعني أنه كلما استهدف النضال النسوي معاقل السلطة الأبوية والطبقية، كلما دب الخوف في هذا النظام وازدادت شراسته.

الاستهداف بالتكفير والعنف الديني: العودة إلى السلاح الأخطر

في وضع مشابهٍ ومتكررٍ، تعرضت الناشطة الأردنية هالة عاهد لموجة هجوم ذكورية كانت أسلحتها هي التكفير وهدر الدم، والتحريض باسم حماية الإسلام.

كانت هالة قد أعلنت عن قيامها بتأطير لقاء توعوي حول مبادئ النسوية في العاصمة عمّان. وما مضت إلا ساعات على إطلاق الدعوة، حتى قوبلت بهجومٍ إلكتروني عنيف. تضمن استهدافًا شخصيًا لها. وتم اتهامها “بنشر الكفر وتخريب المجتمع وإفساد النساء”. ووصل هذا الهجوم حدَّ التحريض الصريح ضد هالة، والدعوة لاعتقالها وهدر دمها.

مؤخرًا في الأردن، امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بموجة عدائية شديدة الخطورة تجاه النسويات، تكررت فيها خطابات الأبوية المعتادة.

لا تعد مهاجمة النسويات بالسلاح الديني شيئًا جديدًا. فقد كان الأداة الأكثر استخدامًا من الأبوية خاصة في بلداننا، لكونها تستهدف القضاء على شرعية النسويات ومصداقيتهن. فمن توصم بمعاداة الدين، يتم تصويرها كـ”خطرٍ” على بقية النساء. وكنتيجة لهذا التصنيف، تتعرض للعزل الاجتماعي والنبذ فتتقوّض مجهوداتها النسوية.

لكن الهجوم، بهذه الطريقة، على هالة عاهد له أبعاد ممتدة. فهي معروفة بنشاطها الحقوقي والنقابي في العديد من القضايا، منها قضايا المعلمين/ات والفئات الهشة. كما أنها ظهرت بصورة النسوية المحجبة. وهو ما دفع الحشود، كما السلطة الأبوية، لمهاجمتها، لأنها تكسر الصور النمطية التي تم لصقها بالنسويات. خصوصًا تلك المتعلقة بانفصالهن عن قضايا المجتمع واهتمامهن بالنساء فقط. وعلى مستوى آخر، حصر النسويات في صورة نمطية موحّدة على مستوى الشكل والأسلوب.

من هنا، نقف على أن نمو الوعي النسوي، ومقدرة الحراك على ربط الجسور بين مختلف الفئات المهمشة، يكون رد الفعل عليه دائمًا عنيف. وإذا كان هذا النضال يربط بين مقاومة النظام الأبوي وبين مقاومة الأنظمة القمعية الأخرى، وينخرط بفاعلية في حركات العدالة الاجتماعية، فإن التهديد ينمو أيضًا ويشكل دافعًا للهجوم والاستهداف.

هل ينجح النظام الأبوي في تشتيت صفوفنا؟

بالنظر لأنواع العنف التي تواجهها النسويات،في الفضاءات الالكترونية أو على الأرض، فإننا نواجه تصعيدًا أبويًا غير مسبوق. فالنضال النسوي على قدمه، لم يعرف هذا الزخم النضالي الذي ساد في العقد الأخير، ما جعلنا نشهد حالة من العنف المنظم. ذلك الذي لا يتوانى عن استخدام كافة أساليب العقاب، من السجن والمحاكمات وحتى التشهير والتكفير والعنف الرقمي.

لأن النظام الأبوي يراهن على جدوى استراتيجية العقاب والهجوم، في دَب الرعب في صفوف النسويات وتشتيتها. فقد عاين قوة التضامن النسوي، خصوصًا مع الضحيات/الناجيات، والتنظيم المبهر في التدوين ورفع الحملات الإعلامية لفضح الانتهاكات والعنف وجرائم قتل النساء. ما يعني أن استمرار هذا العمل والتضامن، سيؤدي في نهاية المطاف إلى مقاومةٍ جذريةٍ تستهدف المنظومة، بكافة مستوياتها.

على النسويات توحيد صفوفهن اليوم أكثر من الأمس. علينا تجنّب السقوط في فخ الأبوية، والانزلاق نحو أجنداتٍ سياسية غير ثورية. وكذلك علينا بسط مزيد من التضامن والالتفاف حول نضالٍ نسويٍ واعٍ لمخططات النظام الأبوي وأساليبه. وهذا الوعي يتضمن اعترافًا بخطورة الوضع، في ظل الاستهداف السياسي والمجتمعي والهجوم الديني.

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد