لماذا نعتبر قضايا الهجرة واللجوء والنزوح والتهجير القسري.. قضايا نسوية؟

على مدار التاريخ، كانت الهجرة والتنقل في قلب التجارب الإنسانية. إذ تنقّل الأفراد والجماعات بحريّة في الأرض، سعيًا وراء الغذاء ومصادر المياه، أو الطقس المعتدل. وكذلك هربًا من الكوارث البيئية كالزلازل والبراكين والجفاف ونقص الموارد، وبحثًا عن مأوى أكثر أمانًا. إلا أن ذلك شهدَ تغيّرًا في القرون الماضية، خاصة بعد نشوء الرأسمالية كنظامٍ اقتصادي سياسي اجتماعي. وأصبحت حرية الحركة والتنقل مرهونة ومحدودة وقاصرة، أو قسرية.

تُعد حرية انتقال الأفراد والجماعات قضية تهتم بها الأيدولوجيات النسوية المختلفة. حيث تتنوع المناظير النسوية التي تناقش هذه القضايا من زوايا عدة، وعلى رأسها حرية الحركة والتنقّل، وعدم الاستيلاء على الأراضي.

وهناك تاريخٌ حافلٌ بالانتهاكات التي سعت النسويات إلى تسليط الأضواء عليها، دعمًا للأشخاص والجماعات المهمشة، والأكثر عرضة للهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. من هذا المنطلق، نناقش اليوم اهتمام النسوية بقضايا الهجرة واللجوء والنزوح والتهجير القسري.

كان هناك درجة من التسامح مع حركة الهجرة إلى أوروبا لأنها ترفع نسبة الأيدي العاملة، إلى أن ظهرت الخطابات القومية التي رأت في المهاجرات/ين تهديدًا لديمواغرافيتها ولسيادة العرق الأبيض. وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، تم تفعيل سياسات صارمة تحدُّ من حركة الانتقال، خاصة من الجنوب العالمي إلى شماله.

تاريخ الانتقال والحدود

بدأ تاريخ الهجرة مع بداية التاريخ الإنساني ذاته، وحتى قبل تسمية “الحضارة”. فكان البشر يتنقلن/ون بحريّة سعيًا وراء الموارد أو هربًا من الكوارث. وأصبحت حرية الحركة فيما بعد، مرتبطةً بالتبادل التجاري والأنشطة الاقتصادية المختلفة، وما يدعى بالاستكشاف.

والاستكشاف هو نشاطٌ اتبعه الرحّالة لزيادة المعرفة الإنسانية وتوسيع آفاقها، حتى أصبح في القرون الوسطى نشاطًا يهدف للتوسّع الاقتصادي. والوصول إلى أراضٍ جديدة، وذات موارد يُمكن الاستفادة منها، أو بالأحرى استعمارها. وأدى ظهور الثورة الصناعية في أوروبا إلى زيادة هذه الحركات الاستكشافية، التي نتج عنها استعمار أراضٍ وبلدان خارج أوروبا، وبناء مستعمرات أوروبية فيها لنهب الثروات.

ومع مرور الوقت، واستمرار سوء أوضاع الشعوب الأصلانية تحت الاستعمار، صارت حركة الهجرة من المستعمرات إلى أوروبا. كان الترحيب بالمهاجرات/ين إلى أوروبا آنذاك محدودًا، لكن كان هناك درجة من التسامح معه لأنه يرفع نسبة الأيدي العاملة. حتى ظهرت الخطابات القومية التي رأت في المهاجرات/ين إلى أوروبا، تهديدًا لديمواغرافيتها ولسيادة العرق الأبيض. وبعد الحرب العالمية الأولى والثانية، تم تفعيل سياسات صارمة تحدُّ من حركة الانتقال، خاصة من الجنوب العالمي إلى شماله.

تاريخيًا، كان هناك دائمًا ما يتم تعريفه بـ”الحدود الطبيعية” والتي تفصل الجماعات البشرية، مثل الأنهار والمحيطات والجبال إلخ… لكن بدء تطبيق الحدود بين البلدان بشكلها الذي نعرفه اليوم: نقاط تفتيش، قد بدأ بين البلدان الأوروبية نفسها، ثم تم تعميمه بعد زيادة حركات الهجرة إلى الشمال هربًا من الاستعمار والحروب.

بين الهجرة واللجوء

ليست القوانين والسياسات التي تم تعميمها في القرن العشرين للتحكم في أعداد المهاجرات/ين إلى الشمال وحدها هي العامل المؤثر على حرية الحركة. وذلك لأن الخطابات التي تتبناها هذه السياسات ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في تحديد مَن لهن/م حق الهجرة. فمثلًا، هناك مصطلحات مثل: الهجرة الشرعية، الهجرة القانونية، اللجوء، الأشخاص غير الموثّقات/ين.

بخلاف أن قوانين الهجرة أثبتت فشلها على مدار قرنٍ تقريبًا، فهناك انتهاكاتٌ صارخة تحدث على الحدود وفي نقاط التفتيش.

فالهجرة الشرعية، والتي تم استبدالها مؤخرًا بمصطلح الهجرة النظامية، هي الهجرة التي سعى الأشخاص إليها بطرق قانونية. لكن هذا المسلك القانوني للهجرة، خاصة للواتي/الذين لا يتمتعن/ون بامتيازات طبقية واقتصادية، مليء بالعراقيل ويتطلّب وقتًا طويلًا للغاية. في حين أن بعض الأشخاص قد يجدن/يجدون أنفسهن/م فجأة مضطرات/ين للهجرة هربًا من جحيمٍ ما في بلدان المنشأ.

وتجبر هذه العراقيل، الكثيرات/ين على عبور الحدود، والعيش في البلد الجديد مهمشات/ين، من دون أيّ حقوق قانونية – ما يتم تسميته بالهجرة غير الشرعية – إلى جانب خطر الترحيل الدائم حال اكتشاف السلطات أمرهنّ/م. في هذا الصدد، يُعد مصلح الهجرة غير الشرعية/غير القانونية مصطلحًا يبرر العنف تجاه هؤلاء الأشخاص غير الحاصلات/ين على أوراق ثبوتية. في سياقاتٍ أخرى، يتم الإشارة إلى الأشخاص غير الحاصلات/ين على أوراق الثبوت القانونية بمصطلح “البدون“.

لذلك، وبعد تزايد الحروب والنزاعات في الجنوب، تم استحداث مصطلح اللجوء. وهذا المصطلح أيضًا إشكالي. إذ ينطوي على منح البلد المستضيف، حق اللجوء بناءً على معطيات، منها السن والنوع الاجتماعي والحالة الاجتماعية وأسباب الهجرة (التي يتم تسميتها لجوء في هذه الحالة).

لكن هذا “اللجوء” هو نتيجة مباشرة لعدم فاعلية قوانين الهجرة. وبالتالي، هو محاولة لتقليل عدد الأشخاص اللواتي/الذين يعبرن/ون الحدود بشكلٍ غير نظامي. علاوةً على الترحيل القسري في حال تم رفض طلب اللجوء.

تظل مصطلحات مثل شرعي، قانوني، ثبوتي، لجوء مجرد مصطلحات تسلب حق حرية الحركة والتنقل من الأفراد والجماعات، وتضعها في يد الأنظمة والدول، لتقرر “منحها” إلى الأشخاص اللواتي/الذين تحدد أحقيتهن/م في الهجرة بناءً على معاييرها، وليس معاييرهن/م وأسبابهن/م للهجرة أو حقهن/م في حرية الحركة.

هل النزوح والتهجير القسري هجرة؟

حركات النزوح بالطبع هي حركات هجرة، وغالبًا ما تكون جماعية ولأسبابٍ قهرية كالحروب والمجاعات والنزاعات المسلحة والعنف. إلا أن النزوح قد يكون هجرة مؤقتة، بمعنى أن يكون الانتقال من مكانٍ إلى آخر عملية مستمرة، إما بالعودة إلى بلد الميلاد أو بلدان غيرها.

أما التهجير القسري، فهو إجبار الجماعات والأفراد على ترك أماكن أو بلدان أو أحياء تواجدهن/م لأسبابٍ لم يقررنها/يقرروها لأنفسهن/م.

غالبًا ما يحدث التهجير القسري تحت ذرائع عدة، مثل بناء المشاريع القومية، كما حدث مع النوبيات/ين في مصر، أو الاستيطان الصهيوني في فلسطين، أو “الحضارة” كما مع الشعوب الأصلانية في أميركا. وقد يحدث تحت ذرائع أخرى، مثل التطوير العمراني والذي يكون عادةً مدفوعًا بالطبقية والرأسمالية، كما في جنوب أفريقيا وبلدانٍ كثيرة حول العالم.

وجدير بالِذكر أن أكبر حركة هجرة قسرية في التاريخ حدثت بنقل قسري للشعوب الإفريقية إلى الأميركتين، ليبدأ معها عصر الاستعباد بصورة أكثر وحشية عن ذي قبل.

لذلك، فالتهجير القسري شكلٌ من أشكال الهجرة الإجبارية والتي تكون بدافع الاستيلاء على الأراضي، لتحقيق منافع لغير ساكنيها.

يعاني الضحايا من استمرار هذه الانتهاكات بسبب عدم حصولهن/م على أوراق ثبوتية. وهو ما يجعلهن/م تحت رحمة الخاطفين وتجار البشر وقادة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، خاصة النساء.

لماذا تهتم النسوية بقضايا الهجرة؟

تهتم النسوية بقضايا الهجرة بكل تشعباتها. كذلك تهتم بالتعقيدات القانونية التي تسلب حق الأفراد والجماعات في حرية الحركة والتنقل، وتحديد أسبابها بأنفسهن/م. كما أن الانتهاكات المرتكبة بحقهنّ/م هي انتهاكاتٌ لحقوق الإنسان في تحديد المصير واختيار أماكن الإقامة، والحصول على رعاية صحية وتعليمية وحقوق مواطنة متساوية.

وجدير بالذكر أن هذه التعقيدات القانونية، ينتج عنها عنفٌ مضاعف. حيث يتعرض الأفراد المضطرات/ين للهجرة غير النظامية إلى جرائم وانتهاكاتٍ كبرى، منها الاتجار بالبشر والاختطاف والاستعباد. وهذه الجرائم لا تنتهي فور الوصول إلى البلد الذي تمت الهجرة إليه.

حيث يعاني الضحايا من استمرار هذه الانتهاكات بسبب عدم حصولهن/م على أوراق ثبوتية. وهو ما يجعلهن/م تحت رحمة الخاطفين وتجار البشر وقادة الجريمة المنظمة العابرة للحدود. خاصة النساء، فقد يتعرّضن لهذه الانتهاكات حتى لو كن حاصلات على أوراق ثبوتية.

بخلاف أن قوانين الهجرة أثبتت فشلها على مدار قرنٍ تقريبًا، فهناك انتهاكاتٌ صارخة تحدث على الحدود وفي نقاط التفتيش. وهذه الانتهاكات تتضاعف وتتزايد بحق النساء والأطفال والفئات المهمشة، ومنها العنف الجنسي والجسدي والترحيل أو الفصل التعسفي للطفلات/الأطفال عن الأمهات والآباء والعائلة.

كل ذلك بذزيعة ما يتم تسميته بـ”حماية الأمن القومي” للبلد المستضيف، ولكنه في الواقع تمييز عرقي وعنصري. حتى مصطلح “البلد المستضيف” نفسه، يضع هؤلاء في علاقة قوة غير متكافئة مع الحكومات والدول التي يهاجرن/ون إليها. وكأنه يجب أن يشعرن/ون بالامتنان تجاه السماح لهن/م بممارسة الحق في الحركة والتنقل.

كيف يتم التمييز ضد المهاجرات/ين؟

تنتقد النسوية الخطابات العنصرية والقومية التي تغذّي العنف ضد المهاجرات/ين سواء كانت هجرة نظامية أو غير نظامية، مثل فوبيا الأجانب والخوف من غير المواطنات/ين بوصفهن/م “آخر”. ويعتبر مفهوم “الآخر” أو الآخروية، هو أحد المصطلحات التي تنتقدها النسوية. إذ يعتبر كلّ من لا تحمل/ يحمل جنسية البلد المستضيف عبئًا اقتصاديًا وسياسيًا.

بخلاف النظر إلى هذا “الآخر” بعينٍ عنصرية تعتبر ثقافة بلده/ها “المتخلفة” هي التي دفعته/ها للهجرة. دون النظر إلى أن أغلب البلدان المستضيفة في الشمال ساهمت وتساهم في خلق خطاب “الثقافات المتخلفة والرجعية” داخل البلدان التي يتم الهجرة منها. وذلك بسبب سنوات الاستعمار ونهب الثروات والإفقار من أجل أن “تتقدم” البلدان التي تمِنُّ على المهاجرات/ين اليوم بـ”الاستضافة”.

وهي أيضًا التي جعلت من بلدان منشأ المهاجرات/ين مناطق نزاعات، إما بسبب الاستفادة الاقتصادية من تجارة السلاح. أو ضرورة وجود نزاعات مسلحة من أجل استمرار عمل منظمات “المساعدات الإنسانية” التي تساهم في حركة رأس المال بين الجنوب والشمال.

هل خطابات الكراهية ضد المهاجرات/ين تحدث حصريًا في دول الشمال؟

لا تنتشر هذه الخطابات في دول الشمال العالمي فقط. فهناك حكومات ومجتمعات في الجنوب العالمي، تتبنى نفس الخطابات العنصرية والقومية تجاه المهاجرات/ين. ونرى يوميًا انتهاكات بحق المهاجرات/ين في بلداننا الناطقة بالعربية. إلا أن تبني هذه الخطابات يعكس جهلًا عميقًا بأصولها العنصرية التي بدأت في دول الشمال بعد أن شعرت بالتهديد على سيادة عرقها الأبيض منّا نحن.

فكل الأشخاص اللاتي/الذين لا ينتمين/ون إلى العرق الأبيض، يتم النظر إليهن/م على أنهن/م أدنى في المنزلة الإنسانية. ووفقًا لهذا التصور العنصري، فهناك استحقاق لممارسة العنف ضدهن/م بسبب العرق، سواء كان بالقوانين والسياسات، كما هو الحال مع قضايا الهجرة وحرية التنقل. أو كان بممارسة العنصرية المجتمعية تجاه المهاجرات/ين بالخطابات والاستهداف بالعنف والاستغلال.

من الهزلي أن تبنّي هذه الخطابات في بلدان الجنوب العالمي، لا يؤدي إلى العنف تجاه المهاجرات/ين في الجنوب العالمي فقط. بل يشرعن أيضًا العنف ضد الأشخاص اللواتي/الذين يمارسن/ون هذا العنف ذاته، لو هاجرن/وا إلى دولة ذات سيادة عرقية بيضاء. أي أنه هو الحبل الذي يشنق هؤلاء به أنفسهن/م، قبل المهاجرات/ين إلى بلدانهن/م.

لهذه الأسباب وغيرها، فإن اهتمام النسوية بقضايا الهجرة وكافة تعقيداتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تأتي في صلب الخطاب النسوي التقاطعي. الذي ينظر إلى قضايا المهمّشات/ين ويُحلل أسباب هذا التهميش وما يترتّب عليه من عنف. كما أن العدسة التقاطعية التي ننظر من خلالها إلى هذه القضايا، هي نفسها التي نستخدمها في نقد النظام الرأسمالي الذي يتوحّش على حساب الأفراد والجماعات من بلدان الجنوب العالمي. من هنا يأتي التزامنا وواجبنا النسوي في تفكيك وتحليل أسباب القمع، والتصدي لها.

 

كتابة: غدير أحمد

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد