التشهير الذكوري والاستيلاء على المساحات العامة

تعيش كثيرات منّا في مجتمعات ذكورية متطرفة. حيث يسيطر الرجال على المساحات العامة ومساحات الترفيه، ويمارسون العنف والإقصاء والتشهير، لمنع دخول النساء إليها أو استفادتهن منها.

يقاوم هؤلاء الرجال تقلّص مساحات السجون المنزلية التي صنعوها وتوارثوها، جيلًا بعد جيل. إذ يواجهون خروج مزيدٍ من النساء إلى الفضاءات العامة، خصوصًا تلك التي لا تتعلق بالإنتاجية الاقتصادية، مثل أماكن العمل والتعليم. فأصبحت رؤية النساء، وتحديدًا العازبات، في المقاهي أو مساحات الترفيه العمومية، مدعاةً للهجوم الذكوري وشعور الرجال بالتهديد.

في الكثير من المجتمعات الناطقة بالعربية، شهدت المساحات العامة تزايدًا في تواجد النساء والفتيات خلال العقود الأخيرة.

حيث يتواجدن دون مرافقين “رجال” بعدما غلبَ عليها لفترة طويلة ثنائي الرجال/العائلات. حينذاك، كانت كل مَن ترتاد مساحة عامة تحتاج إلى صحبة عائلتها، أو رجلٍ تربطه بها صلة “شرعية”. أما النساء اللواتي لا يلتزمن بهذه المعايير، يتم وضعهن في قائمة المستهدفات.

يسرد كل واحد من المجموعة قصصًا عن فلانة وأنها “عاهرة”، وله معها عدد كذا من المغامرات. ويزيد على ذلك، ويعطي أوصافًا من خياله عن جسدها لإضفاء الصدق على روايته. ثم يبدأ تداول القصص بين الرجال، ووصم كل مَن ترتاد المقهى الفلاني بأنها “فاسدة أخلاقيًا”.

انتهاء عصر المساحات الرجالية

سادت ظاهرة الاستيلاء الذكوري على المقاهي في مجتمعاتنا، حتى أصبحت مشاهدة النساء فيها، بمفردهن أو مع أخريات، تثير الاستغراب والريبَة.

هذه المقاهي كانت تعتمد على العنصر الذكوري في تواجدها. حيث يتم بناء أغلبها في الشوارع الرئيسية والشوارع المطلّة على المعالم المهمة. كما تواجدت بجانب المدارس والأسواق، حتى يتمكن مرتادوها من المراقبة الكاملة على كل مَن تخرج وتدخل في المدينة.

شكّلت المقاهي لفترةٍ طويلة ساحة ذكورية يتنافس فيها الرجال بمختلف أعمارهم على استعراض مهارتهم الذكورية أو ما يُسمى نمطيًا بالرجولة. يدور هذا المفهوم حول السلطة على النساء ومعرفة الكثير منهن، وامتلاك أكبر عدد من المعلومات والتجارب الجنسية، عنهن ومعهن.

هذه المقاهي أنتجت الكثير من الرعب في حياة النساء والفتيات. حيث يعد العبور بجانبها مصدرًا للهلع، نظرًا للطريقة التي تتحول بها أنظار كل رجل يتواجد فيها إليهن. وقد يشكلن موضوعًا ساخنًا للكثير من الطاولات. لذلك، اعتادت النساء تجنّب المرور بجانبها، مثل تغيير الطرق المختصرة إلى أخرى أطول. بعض هذه الطرق يفتقر إلى أساسيات الأمان، مثل الإنارة والكثافة السكانية، ما قد يعرضهن إلى الاختطاف أو العنف الجنسي. إلا أنها، بالنسبة إليهن، أكثر أمانًا من المرور في الشوارع الرئيسية المليئة بالرجال المتجمعين لتأليف القصص عن هذه وتلك.

مؤخرًا ومع نمو قطاع الخدمات والترفيه، أصبح وجود النساء وحيدات في المقاهي أمرًا شائعًا. وساهم ذلك في اقتحامهن الكثير من الأماكن التي كانت تعد مساحة ذكورية بامتياز. حيث أن المقاهي العصرية، أصبحت منافسًا للمقاهي الرجالية التقليدية. وذلك بتركيزها على تنويع لوائح المشروبات والطعام، وتأثرها بالإنترنت الذي قدّم ثقافة طعام جديدة تعتمد على التصوير والتأثير البصري.

التشهير كأداة لحصر النساء في المساحات الخاصة

هذا التغيير لم يسلم من الهجوم الذكوري، رغم آليات العنف المباشر كالعنف الجنسي. حيث كانت هذه الآليات هي رد الفعل الرجولي على وجود النساء في المساحات العامة. إلا أنها لم تنجح، رغم تسببها بوجود الخوف والصدمات النفسية عند معظهمن. ويرجع هذا إلى تواجد النساء في هذه الأماكن بدوافع الضرورات الاقتصادية أولًا، قبل سيادة ثقافة الترفيه القائمة على الاستهلاك.

ومؤخرًا، ساهمت ثقافة صناعة المحتوى الرقمي بكسر الكثير من القواعد التي كان يتم فرضها ضمنيًا على الترفيه. هذه الثقافة التي تتسم بالمرونة والتنوع والاستهلاكية، صعّبت الأمور على النظام الأبوي. وذلك لأن الأجيال الصاعدة لم تعد تكترث للتقسيم الجندري للعالم. بل بصناعة “براند” اجتماعي تحصّل من خلاله بعض الاعتراف.

اتجه الكثير من الشباب الذي لم يتنازل عن لذة السلطة والإحساس بالتفوق إلى إحدى الأدوات المفضلة للذكورية: التشهير. وأصبح رصد النساء والفتيات في الأماكن العامة لتأليف قصص خيالية عنهن، وسيلة بديلة لبث الخوف والرعب. ما قد ينتج عنه ردع النساء عن ولوج هذه المساحات. حيث تجتمع عناصره في الوصفة الثلاثية: تشويه السمعة، ثقافة الاغتصاب، والتعهير (الوصم بالعُهر).

تساعد هذه الوصفة في جعل كل امرأة هدفًا للهجوم والتشويه. يسرد كل واحد من المجموعة قصصًا عن فلانة وأنها “عاهرة”، وله معها عدد كذا من المغامرات. ويزيد على ذلك، ويعطي أوصافًا من خياله عن جسدها لاضفاء الصدق على روايته. ثم تبدأ القصص في التداول بين الرجال، ووصم كل مَن ترتاد المقهى كذا بأنها “فاسدة أخلاقيًا”.

وبعدها، يبدأ كل واحد منهم بمنع نساء عائلته أو شريكته من الذهاب إلى المكان نفسه، بحجة أنه “سيء السمعة”. كما تتوسع دائرة الاستهداف، لتشمل كل المقاهي التي تعرف تعددًا جندريًا، ويتم استثناء المطاعم العائلية فقط.

ورغم وعي كثيرات بأن التشهير يستهدف محاصرتهن، تقف السلطة الذكورية داخل المنزل في وجوههن. فلا تمتلك كل واحدة حق الخروج أو الترفيه، بل يجب أن تستأذن أو تقاتل. وفي هذه المعركة، قد تتعرض إلى الحبس المنزلي، أو تخسر حياتها على إثر تصديق عائلتها لمزاعم التشهير.

تواصل النساء كسر الهيمنة الذكورية على المساحات العامة. يجلسن في المقاهي، ويصنعن المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي، ويحاولن الترفيه عن أنفسهن، في عالم يتم تسخيرهن فيه لخدمة الأبوية.

التشهير من المقاهي إلى الإنترنت

هذا الأسلوب الذكوري الذي يهدف إلى محو وجود النساء من هيكليات الحياة، لم يقتصر على الواقع المادي فقط. إنما امتد وطال مواقع التواصل الاجتماعي، التي وجدت فيها كثيرات متنفسًا من الحرية دون السلطة المباشرة.

يظهر ذلك خصوصًا مع انتشار ظاهرة “صناعة المحتوى”. إذ مكنّت مزاولاتها من ولوج عوالم التقنية، وتصدّر المشاهدات وعرض أسلوب حياة مختلف عن الأسلوب الأبوي التقليدي. ورغم أن هؤلاء النساء لا يتحدين النظام الأبوي مباشرة، لكن وجودهن يشكل تهديدًا للسلطة الذكورية.

أصبح استهداف النساء على الإنترنت ظاهرة تتنامى كل يوم ويتنامى العنف معها. وفي الصحُف، نقرأ يوميًا أن نساء كثيرات تعرضن للقتل والسجن والعنف الجسدي والجنسي والنفسي بسبب ذلك. هذا الاستهداف اتجه لأسلوب الهجوم الجماعي من الذباب الالكتروني الذكوري. حيث يبدأ بالتشهير واستخدام صور النساء دون إذن ونشر قصص كاذبة عنهن، وصولًا إلى حملات عنف وتحريض بهدف اقصائهن.

تواصل النساء مقاومة التشهير رغم المخاطر

رغم الخطورة الكبيرة للتشهير الذي يحرض على العنف ضد النساء، تواصل النساء كسر الهيمنة الذكورية على المساحات العامة. يجلسن في المقاهي، ويصنعن المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي، ويحاولن الترفيه عن أنفسهن، في عالم يتم تسخيرهن فيه لخدمة الأبوية.

ومن هذا المنطلق، تشجع الكثير من النساء والشابات نظيراتهن على مقاومة الاستيلاء الذكوري على المساحات العامة.

 

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد