أسواق نخاسة مقننة.. عن عاملات المنازل المهاجرات والاستعباد الحديث 

لم تخلُ الألفية الجديدة من آفات الحروب والكوارث الطبيعية والنزاعات المسلحة واستحداث أشكال جديدة من الاستعباد. بل شهدت تصاعدًا مع بروز مظاهر انعدام العدالة الاجتماعية والاقتصادية وازدياد التهجير القسري. إذ وضع كثيرًا من المجموعات المهمشة عرضةً لخطر الاتجار بالبشر والاختطاف.

وتعتبر النساء والطفلات/ الأطفال أكثر ضحايا الاتجار بالبشر والاختطاف القسري، إذ ينتشر الاتجار الجنسي بهن/م. والأكثر رعبًا أن هذا الاتجار أصبح سوقًا علنيةً على صفحات الإنترنت العميق أو “الديب ويب”، وتتورط فيه شخصيات نافذة وعصابات أصبح مصدر ثرائها.

بالإضافة إلى ذلك، تنامت مظاهر الاتجار بالبشر أو الاستعباد الحديث، وانتشرت ضمن نطاق يصعب رصدها. لعل أبرزها هو الاتجار بعاملات المنازل، ضمن الدول التي تفرض نظام الاستعباد المسمى بـ”الكفالة” مثل لبنان ودول الخليج

ما نراه مخيفًا اليوم هو الاستخفاف بهذه الجرائم، والتعامل مع اختطاف البشر واستعبادهن/م، خصوصًا إذا كن نساء، على أنه أمر يمكن تجاوزه أو تطبيعه.

يساهم تأنيث العمل المنزلي في تطبيع الانتهاكات التي تواجهها النساء. فمِن المتوقع أن يقدمن الرعاية دون تعب، ولا ضير من استخدام العنف ضدهن، للتذكير بموازين القوى.

الاتجار بعاملات المنازل والاستعباد الطبقي 

عادة ما تُستثنى عاملات المنازل من السرديات والنضالات المناهضة للاضطهاد الأبوي والطبقي، وحتى خلال الأوبئة العالمية. إذ نادرًا ما يتم تضمين مَن يعشن منهن تحت نظام الكفالة، وكيف ترتبط قضيتهن بشكلٍ وثيقٍ بالاستعباد الحديث.

يترك هذا الإقصاء أثرًا عميقًا في مقدرة العاملات على إيصال قضاياهن والنضال من أجلها. فرغم المجهود الكبير الذي تقوم به عدد من المجموعات الناشطة في قضية عاملات المنازل، فإن هذا العمل لم يجد أرضية تضامنية تعمل معه بفاعليةٍ لإنهاء نظام الكفالة.

منها مثلًا، مجموعة egna legna و حركة مناهضة العنصرية في لبنان، والإسهامات في الكشف عن الانتهاكات الجنسية والاقتصادية والجسدية والنفسية التي تتعرض لها عاملات المنازل. بالإضافة للعنصرية الممنهجة وما ينتج عنها من تبعاتٍ عنيفة، خاصة لو كن مهاجرات. ويتضاعف ذلك العنف ضد المهاجرات من أصلٍ إفريقي، أو جنوب شرق آسيوي، بسبب العرق ولون البشرة.

بالنسبة لنا، يمكن مقاربة قضايا عاملات المنازل تحت نظام الكفالة. لكن ذلك يحتاج تحليلًا طبقيًا ونسويًا مناهضًا للاستعباد والاتجار بالبشر واستغلال الحاجيات الاقتصادية. كما يحتاج إلى تحليل العزل المقصود للعاملات عن حاضنتهن الاجتماعية والسياسية، لممارسة هذه الجرائم عليهن.

من أسواق النخاسة إلى الاستعباد الحديث

تكشف التقارير والبحوث التي تقصّت حياة عاملات المنازل تحت نظام الكفالة، تعرضهن للاستعباد الفعلي. فمع وصول العاملة إلى بلد الوجهة (لبنان ودول الخليج)، تتم مصادرة وثائقها الثبوتية من قبل “الكفيل/ة”. وهذا الدور، باختصار، هو دور النخّاس الذي يمتلك مصيرها، ويبيعها لمَن يدفعن/ون أكثر. 

يتخفّى النخاسون/ات في نظام الكفالة تحت مسميات مقننة، لكن أفعالهن/م تكشف قيامهن/م باستيراد العاملات بنية “البيع والاتجار”. وما أن تتم “الصفقة”، تتم ممارسة انتهاكات جسيمة بحق العاملات المهاجرات. وهذه الانتهاكات، ذاتها، تم التطبيع معها، “كجزء من طبيعة العمل”.

سرقة الوثائق الثبوتية والأوراق الرسمية ليست العامل الوحيد في استعباد العاملات والتحكم في حركتهن. بل تشمل أيضًا ساعات العمل التي لا يتم تحديدها. إذ تستيقظ العاملة قبل الجميع، وتنام بعد أن ينام آخر فرد، ويتم إنكار حقها في إجازات عمل أسبوعية. كما أن العديد من الحالات تكشف عن عدم حصولهن على مرتباتهن، بجانب التعنيف الجسدي والنفسي والجنسي.

قد نتخيّل أن الاستعباد انتهى، وأن الحياة يمكن أن تُعاش دون كل هذه الفظائع. لكن، مرةً أخرى، تظهر قضايا العاملات المنزليات أن هذه الصفحة لم تطوَ، بل عادت في أبشع صورة، ودون أن تكون مدعاة للقلق. وذلك لأنها مقننة من جهة، وتم التطبيع معها من جهةٍ أخرى.

تنشط صفحة this is lebanon على الانستغرام في الإضاءة على هذا الواقع الوحشي. حيث تنشر قصص عاملات منزليات تعرضن للقتل والتجويع والاستعباد والاعتداء الجنسي والجسدي، وحرمان من الرواتب وتهديد بالقتل والسجن.

وفي سياقٍ مشابهٍ، يتم عرض العاملات على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بنية بيعهن لطرفٍ ثالثٍ في السعودية. تنتشر هذه الممارسة أثناء رمضان والمناسبات الاجتماعية. حيث يتم نشر صورة العاملة مع مؤهلاتها والقيمة التي يجب دفعها “للتنازل عنها”. هذه الممارسة تذكرنا بتاريخ المنطقة مع أسواق النخاسة. لكن لأن الضحايا في هذا السياق هنّ نساء من طبقات فقيرة وإثنيات وأعراق وأديان مختلفة، ويعرضن بهدف بيعهن للعمل المنزلي، فالاعتراض على ذلك المبدأ أو رفضه يستلزم جهودًا جماعية ومؤسساتية.

نتذكر جميع النساء والأطفال والمهمشات/ين اللواتي/الذين دفعن/وا ثمن الطبقية وانعدام العدالة الاقتصادية والعنصرية والحروب والكوارث المناخية بشكلٍ مضاعفٍ، واختطفن/وا وتم بيعهن/م دون رحمة في أسواق النخاسة المقننة لأغراضٍ اقتصادية وجنسية.

العمل المنزلي والاستعباد بناءً على النوع الاجتماعي

يرتبط استعباد عاملات المنازل بالنظر إلى أن العمل المنزلي على أنه خدمة نسائية طوعية. بأجر أو بدون، تتحوّل العاملة إلى آلة تخدم وتطيع الجميع، وترعاهن/م دون شكوى أو اعتراض.

كصناعةٍ أبوية، يساهم تأنيث العمل المنزلي في تطبيع الانتهاكات التي تواجهها النساء. فمِن المتوقع أن يقدمن الرعاية دون تعب، ولا ضير من استخدام العنف ضدهن، للتذكير بموازين القوى.

هذا الطابع العنيف المرافق للعمل المنزلي قد تم تمريره عبر التشريعات والقيم والمؤسسات. فأصبحت العمالة المنزلية المأجورة أيضًا عرضةً له، بسبب الهوية الاجتماعية: امرأة. لا يحق لها الشكوى أو التعب أو تحديد ساعات العمل. يصرخ عليها أي شخص، لأن عملها لا يعجبه/ها، أو ببساطة لأنه/ها يريد/تريد ذلك. وقد يتطور الصراخ إلى تعنيفٍ جسدي وجنسي. ففي آخر الأمر، وجودها كمقدمة للرعاية يضعها تحت سلطة الجميع، بمن فيهن نساء العائلة.

خصوصًا من تيار النسوية السوداء، قاربت النسويات واقع العمل المنزلي من عدسة التقاطعية. فأوضحن أن اضطهاد عاملات المنازل يعود لعدة عوامل، أهمها موازين القوى والطبقية والذكورية، والعنصرية التي تساهم فيها نساء من طبقات أعلى أيضًا.

وطرحن فكرة أن النساء ذوات الامتيازات لم يساهمن في تفكيك العمل المنزلي المجندر والنضال ضده. بل لجأن للحل الأسهل وهو استغلال حاجة نساء أخريات لدخلٍ اقتصادي، واستخدمنهن من أجل إزاحة عبء هذا العمل عن أنفسهن.

هذه الطريقة، لم تساهم سوى في مفاقمة المعاناة، لكن هذه المرة، ضحيتها نساءٌ من مجموعات طبقية وإثنية وأعراق مهمشة.

ما يزال العمل المنزلي يشكل استعبادًا للنساء، سواء قمن به بأنفسهن، أو وظفن أخريات ليكنّ الضحايا البديلات. وما تزال النضالات حوله غير قادرة على تعبئة الجهود من أجل الوقوف في وجه هذا العمل، وتحويله لاضطهادٍ طبقي استعبادي مجندر.

اليوم العالمي لتذكر ضحايا الاتجار بالبشر.. نتذكر الجميع

كل ما سبق جعلنا نستخدم اليوم العالمي لتذكر إلغاء الرّق بطرقٍ أكثر جذرية. وهي أن نتذكر الجميع من خلال تسليط الضوء على واقع أكثر مَن يتم تركهن خارج التنديد والنضال لإلغاء استبعاد البشر والمتاجرة بهن/م.

قررنا أن نستذكر عاملات المنازل تحت نظام الكفالة. هؤلاء اللواتي يحرمن من أوراقهن الثبوتية، ويوضَع مصيرهن بين نخّاسي مكاتب العمل والكفالة، وبين عائلات/أفراد تتلذذ بتعذيب واستعباد النساء، لمراكمة الامتيازات والشعور بالسلطة و/ أو التفوّق العرقي و/ أو الطبقي.

نتذكر اليوم عاملات المنازل، اللواتي قُتلن أو دُفعن للانتحار بعد إجبارهن على العمل دون تحديد ساعات معينة. مَن تعرضن للتجويع والعنف والاعتداء الجنسي، ومَن مُنعن قسرًا من الخروج والحصول على إجازات عمل. نتذكر مَن سُرقَت رواتبهن، وتم مُنعهن من العودة إلى بلادهن.

اليوم، نتذكر جميع النساء والأطفال والمهمشات/ين اللواتي/الذين دفعن/وا ثمن الطبقية وانعدام العدالة الاقتصادية والعنصرية والحروب والكوارث المناخية بشكلٍ مضاعفٍ، واختطفوا وتم بيعهن/ن دون رحمة في أسواق النخاسة المقننة لأغراضٍ اقتصادية وجنسية.

ونقف اليوم ضد تطبيع استبعاد النساء في المنازل، وفي أماكن الحرب والنزاع وفي العمل القسري. وموقفنا يتضمن وقوفًا قاطعًا ضد تبرير هذه الانتهاكات والجرائم، “وانتقاء” مَن يستحقن/ون التضامن والتحرك.

 

قد يعجبك ايضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد